ستار كاووش
يدرك كل إنسان إنه يعيش مرة واحدة فقط في هذه الحياة. فتخيلوا إن هذه المرة الفريدة التي نملكها، ينبثق لنا فيها شخص معبأ بدخان التعاويذ وأحابيل الوهم والخرافة، فيمنع عنّا الموسيقى ويحرم الفن والجمال والحب، ويفرض قوانين لا تتلاءم مع تطلعات الأجيال الجديدة! ولم يتوقف الأمر عند إستيلائه على عقول الناس بالتلفيق والدجل، بل يجعل البلد صفقة لجني الاموال، ومع هذا ينبري شخص مسلوب الحقوق، مدافعاً عن دخان الأوهام هذا، ويرابط كالحارس الهمام خلف سياج التعاويذ الذي يحيط بحديقة حياته! ليُسَلِّمَ بعدها طائعاً، زمام أموره لمداهنين يَنعمون بسيطرتهم عليه، ويبقى هو يدور ويدور في فلك خوفه من المجهول الذي عبئه هؤلاء في رأسه، ولا يريد لأحد أن يفتح له كوة صغيرة يطل منها على الحياة التي تملأ العالم.
سألني صديق متذمراً (اكثر مواضيعك، تكتبها عن هولندا وتتغنى بالجمال والابداع في الخارج! فماذا قدمت لبلدك العراق من خلال فنك وكتابتك؟) أنا لا أدعي بأني قد قدمت ما يوازي محبتي لبلدي، وفي ذات الوقت يقلقني هذا النوع من الأسئلة الملغومة التي تغلفها الصراحة والثقة بالنفس، لكن يقطنها الجهل والتدليس، أسـئلة تتناسى احوال البلاد والعباد وما يحدث من محو لهوية البلد، لتوجه سهامها نحو طائراتنا الورقية التي تنقل بعض جمال هذا العالم وتقربه من العراق. لا أحد ياعزيزي يستطيع الإدعاء بأنه قد قدَّم ما يليق بالعراق، فمهما أعطى الانسان، يبقى ذلك قليلاً بحق بلده، لكني أعرف بشكل أكيد إن الكثيرين من مبدعي العراق ساهموا بإعطاء صورة ناصعة عن البلد اكثر مما قام به النواب والحكومة الذين ينامون وملء جفونهم عن شواردها كما قال عمنا المتنبي.
دع عنك كذبة عراقيي الداخل والخارج، فكلنا نفكر بإمر البلد، لكن كُلّ على طريقته التي تناسبه وتتلاءم مع وضعه وظروفه. أعيشُ في نقطة بعيدة قرب بحر الشمال، لكن معرضي الشخصي الأخير كان عنوانه (بغداد في الشمال) لأني وبكل بساطة، مهما ابتعدت واينما عشت فلا أزال أعيش في بغداد، أو بالأحرى هي التي تعيش معي. وما أكتبه يتعلق بصميم عملي كرسام، والذي يقودني الى دروب تحتوي على تفاصيل جميلة، والشخص المحب للحياة يتوقف عند كل نقطة إيجابية ويحاول إيصالها الى ابناء بلده. أرى من الواجب عليَّ وعلى غيري تحفيز الناس (من خلال بعض المواضيع) على التفكير وإعادة النظر بأشياء جميلة في بلدنا، ماتت او بدأت تتآكل وتختفي لأسباب كثيرة، أهمها سيطرة أشخاص جهلة ولصوص على مقدرات البلد ووضع جدار من الوهم والخرافات بين الناس وما يحدث في العالم.
أماكن العبادة ياعزيزي اصبحت متاحف، وأنت لا تريدني أن أريك الجمال الذي يملأ هذه الحياة! هكذا أغلقتَ شبابيك حياتك وأبوابها، وأوصدتَ نوافذ حاضرك ومستقبلك؟ فإن كنتَ تنوي بناء جداراً من احجار الوهم بينك وبين الحياة، فَلا تثير بعد ذلك نشيج الشكوى والتبرم حين يُسرَق ما تبقى من البلد في وضح النهار.
ضَعْ أَمري ومعارضي وآرائي جانباً، تناساها بشكل كامل، وفكّر أن هناك الكثيرين من هم اعمق مني فهماً وتجربة ومكانة، يحاولون ان يعطوك اشارات لبعض الحلول من خلال تجاربهم في علم الاجتماع والنفس والفلسفة، ويضعون بين يديك الطيبتين رؤاهم ومشاهداتهم، ومقارناتهم لما يحدث في بلادنا وما يـبتكره العالم من حرية وجمال وإحترام للإنسان. فإن لم تطلع على مايحدث في هولندا أو اليابان أو أي مكان آخر في هذه المعمورة، فكيف إذن ستقارن نفسك مع الآخرين لتعرف حدود ما بحوزتك من حرية وجمال وإنسانية... ومستقبل؟ وأن لم تكن لديك القدرة على قول الحقيقة أو الإشارة اليها، فلا تقف في طريق الآخرين وتمنعهم عن قولها.
أترك الجنة الموعودة التي في خيالك ياعزيزي، وإمض لبناء يومك، فقد بنى العراقيون القدامى الجنة حين اخترعوا الكتابة والعجلة والقوانين، فماذا اخترعتَ أنت لتتبرم وأنت تمسك بأذيال العباءات واللحى والطلاسم الرثة؟