ستار كاووش
هل تود تغيير إسمك؟ أو ترغب بتغيير جزء معين منه؟ هكذا سألتني موظفة البلدية وهي تضع أصابعها العشرة على "الكي بورد"، وعيناها شاخصتان على شاشة الكبيوتر، ثم إستطردت قائلة (لأنك ستحصل على هذا التغيير مجاناً إن كنت بحاجه له الآن) لتكمل حديثها (في حين، ستدفع مبلغاً من المال إن قمت بذلك في وقت قادم). قالت جملتها الأخيرة وهي منشغلة بتثبيت بعض المعلومات، وقتَ حصولي على الجنسية الهولندية. فقلت لها بنبرة تبدو جادة جداً: نعم، أحب أن أغير إسمي بالتأكيد. وهنا إنبرت متسائلة (وما هو الأسم الجديد الذي تريده) فقلت لها وأنا أحاول أن أكتم ضحكة كادت تقفز وتصطدم بوجهها: أريد أن يكون إسمي الجديد (فنسنت فان غوخ)، وبالكاد أَكْمَلَتْ كتابة فنسنت... حتى تَوَقَّفَتْ فجأة، لتفتح عينيها وترفع رأسها نحوي، ونضحك معاً ضحكة كبيرة دَوَتْ في أركان الغرفة. بعد أن هدأت موجة الضحك قلت لها: جميل إنكِ فهمتِ بأني أمزح، أحب فنسنت كثيراً، لكني بالتأكيد لا أريد أن أغير اسمي.
إرتبطتُ منذ صباي إرتباطاً روحياً بفنسنت فان غوخ، قرأت سيرته وتفاصيل كثيرة عن فنه وحياته، وتفحصت معالجاته من خلال الكتب الفنية العديدة، وتأثرت بعدها بتقنيته وأسلوبه أثناء دراستي الرسم في الأكاديمية. وقد وصلت الى هولندا حين كنت في السابعة والثلاثين من العمر، وهو ذات العمر الذي إنتحر فيه فنسنت. وقتها لم أكن قد إطلعت على أي عمل أصلي له، فتوجهتُ مباشرة الى متحفه في أمستردام، لإشاهد المئات من لوحاته وأتابع فرشاته التي تسير على قماشات الرسم بعاطفة قل مثيلها، وهكذا توالت زياراتي للمتحف للوقوف أمام أعماله والاطلاع على النسخ الأصلية من رسائله، وسافرت الى بلدان متباعدة لأشاهد لوحاته الأخرى في متاحفها، حتى تسنى لي رؤية كل أعماله الأصلية تقريباً.
إنتقلتُ من روتردام وعِشتُ عشر سنوات في هوخفين، وهي ذات المدينة التي عاش فيها فنسنت فان غوخ في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وحين كنت أذهب كل يوم الى (معهد درينته) لدراسة اللغة الهولندية، كنت أمر بمحاذاة بيته الذي تحول الى مؤسسة ثقافية تحتوي على تفاصيل كثيرة من ضمنها غاليري. وفي كل مرة كانت خطواتي تقترب من البيت، كنتُ أديرُ رأسي نحو تمثال فنسنت النصفي المثبت على الجدار قائلاً: صباح الخير فنسنت. وشاءت المصادفات أن تأتيني بعد فترة من الزمن دعوة لإقامة معرض شخصي في ذات البيت، وقد أقمت المعرض سنة 2006 وحمل عنوان (تحية الى فنسنت)، وعند الافتتاح كنت أقف بجانب مدير المؤسسة، نمسك بقدحي نبيذ ونتبادل أطراف الحديث، حين تقدمت استاذتي في اللغة الهولندية ساسكيا وحجزت واحدة من اللوحات. لحظتها أمالَ المدير رأسه ناحيتي وقال بصوت منخفض (لقد بُيعت أول لوحة) ثم استطرد مازحاً (هذه علامة جيدة لأن صاحب البيت ذاته لم يبع شيئاً في حياته)، فشعرت بالخجل من المزحة ذات الكوميديا السوداء.
مرَّت السنوات وتحسنت لغتي الهولندية بشكل جيد، لأبدأ بترجمة رسائل فان غوخ التي صدرت في كتاب عن متحفه في امستردام، وهذه أول مرة تترجم فيها هذه الرسائل مباشرة من الهولندية الى العربية، وهي تنشر الآن على حلقات في الجريدة الثقافية الأنيقة (تاتو). وكانت مفاجئة عظيمة حين إكتشفتُ أن بعض هذه الرسائل كان قد كتبها فنسنت في ذات البيت الذي أقمت فيه معرضي الشخصي! يبقى العالم صغيراً كما يقول الهولنديون، ويمكن لتفاصيل لم تخطر على بال أحد أن تجتمع وتتوحد، وربما الأرواح أيضاً بأمكانها أن تتخاطر وتلتئم بمحبة نادرة.
الآن بودي أن أرى موظفة البلدية من جديد لأحدثها عن هذا كله، وأُذكِّرُها بحادثة الأسم الذي وددتُ مازحاً... تغييره. أو أن أبتسم وأتذكر حادثة أخرى تتعلق بالإسم، بطلها صديق عراقي لديه موهبة كبيرة، لكن لسانه طويل، كنا قد أقمنا معرضاً مشتركاً في مدينة كييف قبل سنوات بعيدة، وقتها اعترضت لأن إسمي كان مكتوباً بشكل خاطئ في "بروشور" المعرض، فما كان منه إلّا أن يجيب على إعتراضي بعصبية وهو يميل جسده الى الخلف (وإذا غلط بالإسم؟ هسه قابل أنت بيكاسو؟! خو مو بيكاسو؟).