ستار كاووش
هل هناك وقت يتحتم فيه على الإنسان أن يتوقف عن الإبداع؟ وهل يتشابه المبدعون مع أصحاب المهن والوظائف المختلفة الذين يتقاعدون عن العمل عند سنٍ معينة؟ أتعيقُ الشيخوخة نوعية الابداع وتؤثر على قيمة الانجاز؟ هذه الأسئلة، هي التي كانت تشغل عازفة الهارب روزا سبير (١٨٩١-١٩٦٧) بعد ان تجاوزت السبعين من العمر وكانت ماتزال متعلقة بالموسيقى رغم توقفها عن العمل في فرقة الأوكسترا. لهذا فكرت سنة ١٩٦٣ بإنشاء بيت آمن للفنانين الأكبر سناً، في مدينة لارن الهولندية، وأطلقت عليه تسمية (روزا سبير هاوس) والذي تطور مع الوقت ليصبح الآن أحد المراكز أو المجمعات الثقافية النادرة والفريدة على صعيد العالم، حيث يعيش ويعمل عدد كبير من المبدعين كبار السن، رسامون وشعراء وموسيقيون وكتاب ومصورون وممثلون ونحاتون وحتى فلاسفة، يعيشون ويقدمون نتاجاتهم الإبداعية وسط أجواء تعودوا عليها، ومع ناس يتقاربون معهم روحياً وفكرياً، وما يحفزهم على ذلك هو اللقاءات الكثيرة التي تجمعهم وتدفعهم للتواصل مع الإبداع وهم محاطون بورشات العمل والمراسم وصالات للموسيقى ومسرح كبير للعروض المسرحية، ينتصب بجانبها غاليري جميل لعرض الأعمال الفنية، ويصاحب ذلك مقهى واسعة للإسترخاء وتبادل أحاديث الفن والابداع، وتقييم نتاجات بعضهم البعض. ويستضيف المجمع أيضاً مبدعين من خارج المكان، ليشاركوا بتقديم نتاجاتهم مع المقيمين. ليصبح هذا النزل مع مرور الوقت مكاناً ممتعاً وجميلاً للقاء الفنانين ومحبي الفن، والذي أخذ يستقطب ايضاً الكثير من الموهوبين الشباب المولعين بهذه المناخات التي تأخذهم لأجواء الهيبيز في الستينات.
يتسع هذا المكان لسبعين مبدعاً مما يرغبون بالاستمرار بمهنتهم كفنانين حتى في عمر الشيخوخة، ويوجد مجموعة من المعايير التي يجب أن تتوفر بالنزيل كي يحصل على فرصة العيش هنا، وهي أن يكون كبير السن، وقد مارس الفن كمحترف، ليحظى بعدها بمكان مناسب للعيش، مع ستوديو او مرسم... وهكذا.
عاش هنا ويعيش الكثير من المبدعين المشهورين والكبار جداً، مثل النحاتة إنكا كلينكهارد، والتي تنفذ أعمالها بالخشب والبرونز والحجر واشتهرت بمنحوتاتها عن الأبدية والحرية والترابط بين الناس، وتعرض أعمالها في دول عديدة. وكذلك الممثل جون كرايكامب الذي يعتبر أحد أشهر الكوميديين في هولندا وله مسلسل ذائع الصيت إسمه (الشمس توجد في البيت) وهو صاحب حضور أخاذ يسحر كل من يشاهده او يلتقيه. وهنا أيضاً عاشت المصورة المعروفة إيفا بسينو سنوات طويلة، وهذه المبدعة كانت ايام الحرب العالمية الثانية مختبئة ونشطة في مقاومة النازية، وأصبحت فيما بعد مصورة ملتزمة تركز على إعادة الاعمار بعد الحرب وكارثة الفيضانات. وتعتبر صورتها التي تمثل صبياً غجرياً يحمل آلة تشلو على ظهرة، واحدة من أشهر الصور في العالم.
في هذا النزل الذي يجمع الكثير من المبدعين، تُباعُ اللوحات وتُفتَحُ مزادات صغيرة للفن، وتقام الحفلات الموسيقية التي أُلِّفَتْ موسيقاها وكتبت أغانيها في ذات المكان، وهكذا أيضاً تُنتج وتُعرض الأعمال الإبداعية الأخرى، لتساهم عائدات هذه النشاطات في تسديد جزء كبير من تكاليف المعيشة، ويساهم بجزء آخر من التكاليف ما يسمون ب (أصدقاء روزا سبير هاوس) الذين يتبرعون من كل هولندا بمبالغ صغيرة، تُجمع لتسدد الكثير من متطلبات المكان.
الرعاية هنا كاملة، ويعمل الكثير من المتطوعين لتلبية كل الاحتياجات، ويوجد فريق متكون من ١٢ شخصاً تقودهم امرأة اسمها أستريد، يقومون كل يوم بتنظيف وترتيب كل تفاصيل المجمع. وكذلك هناك مجموعة من الطباخين الذين يوفرون الطعام بشكل لائق للجميع، يقف على رأسهم الطباخ مايكل، الذي يقول بصدد ذلك (حين تريد ان توفر طعاماً لسبعين شخصاً مبدعاً، فعليك ان تكون طباخاً مبدعاً ايضاً، لهذا أنا أسأل النزلاء عن بعض الاشياء العمومية لطعامهم المفضل، لأقوم بعد ذلك بإبتكار الوجبات والأطباق المناسبة).