لطفية الدليمي
انتشرت منذ عقود بعيدة في أوساطنا العربية حملات رسمية وأكاديمية لتيسير اللغة العربية كان هدفها تبسيط القواعد النحوية العربية وتنقيتها من الشوائب والتعابير الملغزة وجعلها قريبة من التداول اليومي العام ، ولربما يذكر بعضنا قصيدة للشاعر ( حافظ إبراهيم ) - وكانت مقررة في مناهج العربية - تنطق بلسان العربية وتنعى حظّها بين أهلها وتجهر بشكواها :
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامنٌ
فهل سألوا الغوّاص عن صَدَفاتي
مرّت السنوات و تلاشت تلك الجهود المخلصة لتيسير العربية وأهملت الدعوات ولم نتلمس أي تطوّر في هذا المسعى ، بل إن الأمر أدى الى النقيض إذ حدث تعسيرٌ طال تعليم العربية في المناهج المدرسية وغدت لغتنا الجميلة أقرب إلى مقررات ثقيلة الوطأة يدرسها الطلبة كارهين بهدف اجتياز الإمتحانات لا لتعلم اللغة وإتقانها ؛ وكأن هذه المقررات قد صُمّمت حينها لتوفير مصدر رزق لبعض المدرسين الذين يجدون في الدروس الخصوصية إنقاذاً لبؤس الحال..
غدت تلك المقرّرات منفّرة لتركيزها على شواهد نادرة تستند على آيات قرآنية معقدة التكوين أو شواهد شعرية بمفردات مندثرة لشعراء الجاهلية أو اعتمادها نصوصاً تراثية ذات هيكلية نحوية صعبة ، وقد تناسى واضعو هذه المناهج أنّ الطلبة ليسوا مشاريع مستقبلية لخبراء نحوٍ وصرفٍ وقواعد ؛ بل إن الهدف من تعليم العربية الميسّرة أن يمتلك الطلبة القدرة على التعبير الواضح من غير أخطاء نحوية فاحشة تخدش الــــسمع والبصروالذائقة.
يرى بعض المعنيين اليوم أن لامكان لقواعد العربية المنضبطة نحوياً في هذا المحيط الرقمي المضطرب الذي يجدونه غير متناغم مع المتطلبات النحوية للغة العربية، متناسين أن العربية لغة خارقة الجمال والأناقة ، وأنّ كلّ من يدعو لتقزيمها والتغاضي عن سلامتها النحوية إنّما هو امرؤ قصير النظر يفتقد إلى الشغف وامتلاك الأدوات المطلوبة للتعامل مع العربية فضلاً عن اللغات الأجنبية ،ولابد من إيراد ملاحظة مهمة هنا وهي أنّ كل المترجمين والأساتذة العرب الذين أتقنوا اللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية فهماً وترجمة ( من أمثال عبد الرحمن بدوي ، زكي نجيب محمود ، لويس عوض ، فؤاد زكريا ، حسام الآلوسي ، جبرا إبراهيم جبرا ، عبد الواحد لؤلؤة ،، الخ ) إنّما هم بالأصل مفتونون بجماليات اللغة العربية وبارعون في فنونها ومسالكها الكثيرة ، وليس هناك حقاً من يتفنّن في ملاعبة لغة أجنبية والإستئناس بها وهو عاجز عن التعامل مع أسرار لغته الأم .
هل هناك سبيل لتجاوز هذه الحالة الموجعة التي تعانيها اللغة العربية وسط أهلها ؟ هذا سؤال لابد من طرحه على المستوى الجمعي بالرغم من وجود قلة من الأشخاص الجادين الذين يعشقون لغتنا الساحرة - قد سعوا من قبل وسيواصلون سعيهم في المستقبل - لتطوير قدراتهم في فنون اللغة العربية على المستوى الشخصي ؛ أما على المستوى الجمعي فأوّل خطوات العلاج لواقع العربية المرير هو تنقية المناهج الدراسية من الملغّزات والأحجيات المعقدة التي تعتمد نادر القواعد وغريبها غير المألوف فيها،ثم استكمال الجهود لإثراء تلك المناهج بقواعد مبسّطة من النحو تدعمها نصوص من الكلاسيكيات المعروفة بثرائها وجماليتها وعمقها المعرفي مثل نصوص أبي حيان التوحيدي وابن حزم الاندلسي والقصائد التي ترهف الحس وتهذب الذائقة وتمجد الحب والحياة بديل نصوص الغزو والثأر والدم والتغني بالأمجاد البائدة بكلمات بائدة ، وحينها ستعرف الأجيال الناشئة والمتطلعة للمستقبل أيّة جواهر مكنونة قد جرى دفنها والتعتيم عليها في بحر العربية الذي لاحدود لكنوزه الساحرة.