شاكر لعيبي
أودّ رؤية مفهومي الشفاف
transparent
والمعتم
opaque
في الحقل السوسيولوجيّ.
تسمى المادة أو الحاجية بالشفّافة عندما تسمح للضوء بالمرور عبرها. يُستخدم مصطلح الشفافية - تشبيهاً أو استعارةً - لوصف الممارسة الاجتماعية أو لتحديد موضوع البحث في مختلف التخصّصات التي تتناول الشؤون الإنسانية والدراسات الاقتصاد والمالية والقانونية والضريبية والأدب والفلسفة والعلوم السياسية والدراسات الدينية وغيرها. بالنسبة للبعض، تُطرح قضية الشفافية بدلالة التساؤل التالي: هل تسمح الشفافية للناس بمعرفة النظام بشكل أفضل أم النظام بمعرفة الأشخاص بشكل أفضل؟ نحن هنا في صلب الحقل السوسيولوجيّ العميق. لكن ماذا عن المعتم والعتامة Opacité ؟
إن عتامة طبقة فيلمية مثلًا أو زيتية أو من الحبر أو الورنيش أو الورق هي خاصية "اعتراض الضوء"، حتى عندما تكون هذه الطبقة (القشرة) رقيقة. أما عتامة اللوحة فهي قدرتها على ستر أو إخفاء تلوين الأساس الضوئيّ. يصنف تجار الألوان في الفنون البصرية بشكل عام صباغاتهم في ثلاث فئات: معتمة، شبه شفافة، شفافة. العتامة تؤثر على اللون العام للكتلة. العتامة تعارض الشفافية في الجماليات والأخلاق والسياسة.
هنا نحن من جديد نلامس الحقل السوسيولوجيّ.
فرضيتنا هي أن المجتمعات الحضارية تقع في نطاق الشفافية، والمتخلفة أو الأقلّ حضاريّة في نطاق العتامة. في الحياة الاجتماعية، وأساسها: التعاملات اليومية أولاً يمكن ملاحظة هذه الشفافيّة، في حين أن عموم الأشخاص في المجتمعات العربية، هي غالباً أرواح مُحصّنة، تُخفي أكثر مما تظهر حتى في أبسط المعطيات وأكثرها بداهة. عندما يُمتدح شخص بين ظهرانينا يقال بأنه كائن شفاّف، لكأنَّ الصفة من الندرة أو الشاعرية بمكان. بالطبع هناك أرث تأريخي عصيّ على الانفكاك يقع في التصور القائم على العبارة "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان". الكتمان هو الرديف المعروف في الثقافة العربية لمفهوم العتامة. أعرف شاعراً يكتم إمكانية ظهور مجموعته الشعرية حتى وهي في المطبعة. لو قسنا على ذلك ما يمكن عليه الحال في بقية أموره، فإننا في حالة انتفاء مطلق لأيّ نوع من الشفّافية المأمولة (المتخيَّلة) من شاعر، هذا إذا ما اعتبرنا الشاعر رمزاً عالياً للشفافية. ستتنوع تأويلات (كراهية) الشفافية بمستوياتها في مجتمعاتنا، وسيذهب البعض إلى تقديم تفسيرات سياسية وتأريخية وربما دينية وسواها. وبعضها سليم، لكنها لا ترقى في ظننا كلها إلى تبرير رسوخ (اعتراض الضوء) الداخليّ والروحيّ هذا، المناقض لبداهة انسراب الضوء.
إن قيام المفهومين البصريين (الشفّافية) و(العتامة) على وجود (الضوء) أو انتفائه يمنح طاقة عظمى لاستعارتهما، للاستعارة في الحقل السوسيولوجي، وقبل ذلك النفسيّ. فالشفاّفون يبدون وفق هذه الاستعارة كائنات مشبعة بالضوء، مُشعّة، وهّاجة بمختلف الألوان، خلاف المعتمين الذين ينقصهم الضوء أو يسترونه، أو يكبحونه.
قد يقول القائل بأن ثمة تعميم مفرط في مثل هذه الأطروحة: فأنا شفّاف أيضاً، وأنتَ لا تلحظ شفاّفيتي. فهل الشفاّف بحاجة إلى ذريعة لشفافيته، وهل نحتاج إلى مسارب أخرى لاكتشاف الشفاّف من عدمه سوى قدرته على إمرار الضوء بكرم؟