طالب عبد العزيز
إذا كانت جملة"الدنيا بصرة" التي كان يرددها أشقاؤنا الخليجيون في مناسباتهم الجميلة، هي الدالة على جمال المدينة آنذاك، فإن "الربيع بصرة" السنة هذه، ذلك لأنَّه خرق عادته، حين امتد ببهائه حتى أيام نيسان الأخيرة. أقول هذا وأنا أستعيد بعض كلمات إحدى السيدات البصريات، التي أطلت علينا قبل أيام عبر صفحتها، وهي تتحدث عن قوة وجمال المدينة، وهي تتصدى للذين يتهمون المدينة بالقبح والسوء، ذاهبة الى تقصي معاني الجمال في أكثر من مكان فيها، ولعمري، كانت السيدة هذه تستحق منا أن نخفق لها بسعفات قلوبنا.
نعم، ليست بغداد أسوأ مكان للعيش، كما تصف بعض التقارير الأجنبية، مثلما لن تكون البصرة ومدن الفرات الأوسط وغيرها أمكنة بالوصف ذاك، أبداً، فما فعلته الزيادة في مياه شط العرب ومناطق الأهوار، وما قامت به بعض الدوائر والمؤسسات الحكومية والأهلية لا يستحق الإغفال منا، والأجمل من ذلك كله هو إنساننا، هذا المخلوق الاستثنائي، لو منحته الآلهة نظاماً حاكماً متحضراً لكان الأجمل والله.
ينطوي الانسان العراقي على قدر من جمال الروح، ورقة الطبع، وسخاء اليد والقلب، وحب الخير بما لا يتصوره أحد، ولا أجدني إلا ميالاً لتأكيد هذه. ويمكنني أن القول هنا، بأنه لا توجد بلاد في الأرض يستطيع الإنسان فيها أن يخرج من بيته، وبغيته اقصى نقطة فيها، دون أن يفكر بحاجته الى المال والطعام والثياب والسكن إلا في العراق، وهذه فرادة ما بعدها فرادة، فالمأوى والطعام والمال والثياب قوام حياة الانسان في أيّ أرض، وأنا لا أذهب الى العارض والاستثناء، حيث لا أعدم من يقول لي: وماذا عن حوادث القتل والتسليب والقهر والنزاعات العشائرية وو؟ أبداً، إنما أتحدث عن الأصل والجوهر، وليكن ثيسجر في كتابه( عرب الاهوار) قاعدة بيانات لنا، فهو الذي عاش هناك، وخالط الناس، وأحب طباعهم، ولمس عن قرب مكامن الطيبة والعفوية والكرم فيهم، ونقل الصورة البهية الجميلة، التي تختلف عن الصورة التي ترسم لهم اليوم.
تقسو الطبيعة أحياناً فيستجيب الإنسان لندائها الوحشي، وتحنو فيستجيب فتتغير طباعه، وهذه معادلة يصحُّ تطبيقها في مدن الجنوب بخاصة. توحشَ إنسان الأهوار وغلظَ طبعُه، حين عمدت الحكومة الى تجفيف محيطه المائي، ومضايقته في مسكنه ومصدر رزقه، فخرج باحثاً عن حياته التي فقدها، وما بالكم بالذي يفقد حياته؟ كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عن القرية، قلت له : ليس في البصرة قرية تذكر اليوم. ولم يعد في البصرة ريف، أتعلم حكومتنا ماذا يعني أن لا قرية في البصرة؟ أن لا ريف فيها، هاتان المفردتان الجميلتان خرجتا من قاموس حياة البصريين تماماً، ذهب الجنوب البصري بكل بهائه وعذوبته وجماله، صار نسياً في التاريخ ومعه ذهبت طباع وعادات وحكايات، عالم من الألفة والأناقة ذهب الى غير رجعة، أتعلم الحكومة ماذا سينتج عن ذلك؟
يعمل غباء الحكومة على تفتيش البيوت والبحث عن السلاح وتهديد الناس وسجنهم لكنها لم تفكر بما أوصل الناس الى الحال هذه، ومن كان يقف وراء النزاعات العشائرية والتناحر بين الطوائف، فيما الحلول بسيطة جداً: نحن شعب زاهد في حاجاته، لذا نقول: أعيدوا للطبيعة أوضاعها حيث كانت، أحرقوا المناهج السيئة، التي تؤسس للطائفية والشحناء، أبعدوا الدين بفهمكم القذر له، أمّنوا للناس طعامهم الكريم عبر الوظائف المناسبة، ألجموا الأئمة والخطباء عن قول السوء، أحرقوا كتب التاريخ التي تحدثنا عن أفضلية فلان على فلان، وأكثروا من آلات الموسيقى وألوان الرسم وكتب الشعر والخير والنماء في رياض الأطفال والمدارس والجامعات وأفعلوا أشياء مثل هذه وتلك، تجعلوا من شعبنا أجمل الشعوب.