طالب عبد العزيز
في كتاب مذكراته (أعترف بأنني عشت) يكتب بابلو نيرودا :"أن أسعد يوم في حياته، هو الذي التقى فيه مجموعة من عمال المناجم، وحين خرج له أحدهم، من العمق المظلم للمنجم قائلاً: بابلو، أيها الشاعر، إنني أعرفك جيداً. فقد قرات قصائدك." ليلة أمس، تذكرتُ ذلك، وأنا في مضيف (بيت الحمد) بأبي الخصيب، مع البعض من الأهل والأصدقاء، في قرية باب سليمان، في ليلة رمضانية كانت استثنائية بحق. هناك من يصغي للشعر بدموعه.
لم أقرأ الورقة التي أعددتها كـ (محاضرة) والتي تمحورت حول الأسر البصرية الثلاث (الكوازية، الردينية، وبيت النقيب) التي توالت على استثمار الأرض، وتناوبت على ملكيتها كأعطيات من الدولة العثماينة، معتمداً على الباحث الدكتور طالب جاسم الغريب في كتابه المهم والاستثنائي (السلطة والمجتمع والأرض في البصرة، أواخر العهد العثماني، نهاية الانتداب البريطاني)، ذلك لأنني خلصت إلى أن المجلس قد لا يخلو من أحد، من أبناء الأسر هذه، أو أنني وجدت في الحديث عن النخل والماء والغرس وأعمال الفلاحة ألطف وأرق في الليلة الرمضانية، وقد بدا لي أنَّ الناس هنا، أحوج الى التعريج على ماضي المدينة، الذي كان زاهراً، باذخاً ذات يوم.
شرعت أقرأ الفصل الذي عنونته (قلت لهم ما ينبغي على أخٍ مثلي قوله) من كتابي( كتاب أبي الخصيب)، وهو فصل يأخذ من الشعر جُلَّ مادته، ويغلّب اللغة المتاملة الشاعرة على السرد، لكنْ، بشيء من حكاية بسيطة، تتحدث عن صديقَيْن، فلاحَيْن يعملان معاً، يساعد هذا ذاك، فيقضيان النهار والليل في سعادة ووئام وطمأنينة.. لكنني، ومع السطور الأخيرة، ووسط إصغاء الضيوف، فوجئت بـ (معد الإمارة) والدموع تغزو عينيه، ثم أصبح ينشج بصوت جاهد يكتمه، وجدته كسيراً، مفجوعاً. لم ألتق به من قبل، ولا أعرف عنه شيئاً، هو رجل من عامة أهل باب سليمان، غارس نخل وقاطف رطب وثمار، لعله وجد في ما كتبته ضالة قلبه، يقول صديقي د. غسان نجم :"إن شقيق معد الأكبر، كان أكرم أهل أبي الخصيب"،لكنني وجدته أكرم الحاضرين أدمعاً: قلتُ.
لم تدلّني دموع معد الإمارة على عميق روحه، ما يكتنفها، ذلك لأنني لم أسأله عن سرِّ دموعه تلك، وقد يطوي الزمن الصفحة هذه، فلا تُعاد لها قراءةٌ، لكنَّ عشرات الاسئلة تشق وجه اللحظة أمامي، وتنبثق من جيوب الأرض والأنهار ومن أقاصي المديات، هناك حيث لا أحد بمقدوره الإجابة. شخصياً، أعرفُ ما أبكى معد الإمارة، ليس الفقد والخسران والترمل ما يبكيه، إنما هو يبكي الخصب والنماء، ويبكي الجمال والزهو والعذوبة، التي كانت يوماً علامة الربوع هنا، تلك التي ذهبت الى غير رجعة.
نحن، لا نبعد عن نهر باب سليمان كثيراً، كذلك سيكون الجسر الخشبي، الذي بناه البريطانيون أوائل القرن الماضي قريباً، يلامس بطنُ الماء ما ظلَّ من ألواحه، وهي البيوتات التي وقف الدهر عند عتباتها محيياً، مطأطئاً، يوم قدِم الملك فيصل الثاني الى هنا، ويوم كانت عشرات الأبلام والمهيلات تُحَمّلُ بالتمر والعنب والفاكهة والحبوب والخضار وتمخر عباب الماء بشط العرب الكبير الى أقاصي البصرة والعشار. كلنا بحاجة الى بكاء معد الإمارة، ذلك لأننا، جميعاً، في البصرة وأبي الخصيب والزبير والقرنة لا نملك اليد الصادقة لاسترداد ما ضاع منا، ولأننا، لا نقوى على شتم الجرح العميق، الذي مازال ينزُّ ولا يبرأ في أرواحنا.