لطفية الدليمي
يمثّل الدين - والمنظومة الإعتقادية بعامّة - محوراً مركزياً يتطلّع معظم البشر لمساءلته وبخاصة العلماء المميّزين (والفيزيائيين على وجه التخصيص) ، وغالباً ماتجري الإشارة في هذا الشأن إلى (آينشتاين) وتأكيده على أنه يؤمن بِـ (إله سبينوزا) في كلّ مرّة كان يُسألُ فيها عن إيمانه الديني .
يتمحور الأيمان بالمُسلّمات الدينية على نواة صلبة من المعتقدات الفقهية التي إستحالت مع الأيام والتكريس المتعاظم لها رؤية ذات لون واحد وقناعة راكزة واحدة إختزالية الطابع تقوم على قطبين متضادين : الإله الخالق المتعالي الكلي القدرة من جانب ، ومخلوقاته في الجانب الآخر ، وثمة قوانين حاكمة مسطورة في ثنايا الكتب (المقدسة) ترتّبُ شكل العلاقة بين الطرفيْن .
العلم مبحث معرفي يختلف تماماً عن فضاء اللاهوت (والدين بعامة) ، والقطيعة بينهما هي قطيعة معرفية فحسب ؛ لكنّ هذا الأمر لايعدم إمكانية التعايش بينهما متى ماصار اللاهوت نسقاً ثقافياً مثل سائر الأنساق الثقافية التي لاتتحصّن وراء جدران القداسة المفترضة التي تحميها من إمكانية المساءلة والفحص والمراجعة لتكون قادرة على إضافة قيمة إثرائية للحياة .
هناك مسألة جوهرية تتطلب توضيحاً في هذا السياق ، وهي مفهوم (الإله God) . لابدّ من القول بأنّ مفردة (الإله) جاءت بديلاً لمفردة (الله) المتداولة في محاولة لتأكيد حقيقة أنّ (الإله) الذي تتناوله المصنفات الفيزيائية والفلسفية يختلف إختلافاً جوهرياً عن (الإله أو الله) اللاهوتي الذي تخصّه الأديان التوحيدية بصفاتٍ جمعية محددة معروفة ؛ أما (الإله) الذي يقصده (آينشتاين) بالحديث فقد تتمايز صفاته تبعاً لما يبتغيه المرء ، وهو مايشير إليه مصطلح (إله سبينوزا) الذي هو كناية عن مذهب وحدة الوجود وتوحّد الإله بالطبيعة التي تعكس صفاته اللامتناهية في هيئات مختلفة تندرج في توصيفات الخير والأناقة والبساطة والجمال : قد يظهر (الإله) بهيئة عالم رياضيات كلي العلم والمعرفة بالنسبة للرياضياتي ، وقد يظهر بهيئة المُصمّم الكوني الأكبر بالنسبة لعالم الكوسمولوجيا ، وقد يظهر بهيئة (مجموعة تامة وشاملة من المعادلات التي تحكم الكون ، أو بعبارة أخرى نظرية كلّ شيء) بالنسبة لعالم الفيزياء ، وتأسيساً على هذا الفهم ينبغي التحلّي بقدر معقول من (الأريحية الفكرية) عند تناول مثل هذه الموضوعات الإشكالية وبخاصة عندما يكتبها علماء متمرسون في علمهم وقدراتهم الفكرية ، وسيكون أمراً مربكاً إذا ماارتكن المرء إلى قناعاته الدينية الراسخة حسب ، ونعلم أن الكثير من أعاظم الفيزيائيين والعلماء يحملون نوعاً خاصاً من العاطفة الدينية العميقة التي تتطلب امتلاكنا للمفاتيح الخاصة القادرة على قراءتها ؛ فليس الإيمان الديني في نهاية المطاف وقفاً حصرياً على جماعة دون سواها ممّن يرون في أنفسهم وكلاء قيّمين على فهم محدّد للأفكار الدينية .
سيندفع الكثيرون إلى المناداة بخطل فكرة القطيعة بين العلم واللاهوت ، ولن تفوتهم الإشارة إلى جهود متواصلة تُبذل للتأكيد على وجود توافق (مهما كان نوعه أو شكله) بينهما ، وسيعلو صوت الفقهاء الذين يتفننون في ليّ عنق الظواهر العلمية وجعلها تتفق قسرياً مع المواضعات الدينية ..
كم كنّا سنوفّرُ من الدماء والدموع والفرص المهدورة عبثاً لو أصغينا لِـ (إله سبينوزا) بقدراته وصفاتِه اللانهائية المتسمة بالخير والبساطة والأناقة والجمال والرحمة بدل إصغائنا لصراخ دُعاة تكريس الأصوليات المقيتة .