ستار كاووش
ذات مرة كنتُ أتجول بين أروقة وقاعات قصر الحمراء الساحرة في غرناطة، وهناك رأيتُ كيف تقف أفواج السائحين بمهابة أمام شكل وفخامة وجمال الكلمات التي خطها الفنان العربي قبل قرون بعيدة. يقف هؤلاء الأوروبيون منبهرين بجمال الحروف والتكوين والزخارف المصاحبة لها، رغم إنهم لا يستطيعون قراءة (لا غالب إلّا الله) ولا يعرفون معناها، هي وغيرها من الكتابات، فهي أقرب الى موسيقى صوفية في سحرها وحضورها وقوة إبداعها ولا داعي لمن يشرح لهم هذه الكلمات القرآنية والأدعية والأشعار التي إمتلأ بها القصر العظيم، فليس هناك من هو بحاجة الى فهم ماتقوله العصافير كي يُطرَب لسماعها. وهذا هو ذات التأثير الذي تحمله ابداعات الخطاط الكبير روضان بهية الذي تستحق أعماله أن توضع في أرقى المتاحف وأجملها، وحتماً سيتفاعل معها الناس على إختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم ولغاتهم وهم يستمتعون بقيمة وجمال وإنسيابية وسحر الحرف العربي.
تتشابه الأبواب في العالم، وكلها تؤدي الـى شيء ما خلفها، لكن هناك أبواب تؤدي الى نفسها، وقيمتها بوجودها كقطع نادرة وتحف رفيعة المستوى تقف شاخصة مثل الكنوز، ومنها الأبواب الذي أبدعها وملأها بحروفه الأخاذة، الفنان روضان بهية وجعل منها تحفاً إستقرت على سطوحها خطوطه التي تحيطها الزخارف الملونة، ويسبقها موهبته رفيعة المستوى، ليمنحنا في النتيجة الكثير من الجمال والمتعة من خلال هذه القطع العظيمة، وخاصة تلك التي تتناغم فيها نصوص من الآيات القرآنية. فنرى كيف تمتزج موهبته بالألوان التي يستخدمها، ونتحسس تناغم أصابعه الفريدة مع حركة الحروف، ونترقب كيف تتحاور عيناه مع ايقاعات الزخارف، لترتفع على يديه قيمة الحرف العربي الى أقصاها، ونعرف أن حروفه أغلى من الذهب الذي إستخدمه في خطها، لذلك لا يليق بها سوى نصوص مقدسة وعظيمة.
قضى روضان بهية قرابة خمسين عاماً وهو يرسم الحروف بطريقة المحب العارف، يضعها بسحر وعلى مهل فوق السطوح كما يفرش البستاني زهوره في فناء الحديقة، لتتحول هذه الاعمال الى تحف وإيقونات تحكي مسيرة مضيئة مع الحرف العربي وتشير الى إمكانيات هذا الفنان والخطوات التي يمكن ان يجتازها والمناطق التي يمكن ان تصلها ريشته.
تجربة بهية ومكانته العالية تضعه بكل جدارة في مصاف الاساتذة العظام أمثال نظيف وراقم وأمين وغيرهم، لكن مع ذلك، ما برحَ أستاذ خط الثلث يتعلم منهم، ويحاور حروفهم ويجاورها بمحبة العاشق وروح المتواضع، رغم علو مكانته كأستاذ إستثنائي أشرف خلال مسيرته التدريسية الطويلة على أكثر من أربعين طالب دكتوراه وماجستير، إضافة الـى حضوره الكبير ودوره المؤثر كمحكم في مهرجانات الخط العربي داخل وخارج العراق، وكذلك مشاركاته في المعارض والندوات، وحصوله على جوائز مهمة تليق بمكانته.
في صبيحة أحد الأيام، صحبتني شارلوته هاخنس مديرة المتحف العالمي في روتردام وقت كتابتها مقدمة كتابي نساء التركواز، لرؤية مايسمى في المتحف ب (غرفة الكنوز)، ولما لاحَظَتْ دهشتي وأنا أتطلع الى المنمنمات والمخطوطات العربية والاسلامية القديمة بخطوطها وزخارفها الذهبية التي تُذهِبُ العقل وتفتن الروح، قالت لي (هل تعرف ياستار، حتى الاشخاص الذين لا يستطيعون قراءة حرفاً واحداً مما هو مكتوب هنا سيتفاعلون بنفس المقدار مع هذه الكنوز لأنها تملك طاقة داخلية وسطوة عجيبة على العين). كم تمنيت ان تكون أعمال ابن بلدي روضان المبدع الباهر هنا في غرفة الكنوز هذه، فخطوطه وزخارفه وأشكاله تحمل أناقتها وقوتها وحضورها الأخاذ، وستكون أكثر تأثيراً حين تحظى بالمكان الذي يليق بها.
هناك مثل صيني يقول أن (الصورة تساوي ألف كلمة) ولكني سأختار أن تكون الكلمة تساوي ألف صورة، شرط أن تكون هذه الكلمة من إبداع روضان بهية.