طالب عبد العزيز
يقول أحد الفلاسفة بأن السعادة هي أن تعيش في بلد متحضر ومتمدن، وهنا، تكشف لنا حادثة الدهس غير المقصودة التي تعرضت لها الناشطة المدنية هناء إدورد أهمية العيش في البلد المتحضر، مثلما كشفت لنا تظاهرة إحدى العشائر أمام مدينة الطب خطورة العيش في البلد المتخلف، الذي تحكمه قوانين الغاب.
قد يبدو التعامل مع حادثة السيدة إدورد ناشزاً في طبيعة التعامل مع حوادث السير اليومية داخل المجتمع العراقي اليوم، وهي غير قابلة للتسامح، والعفو بحسب أعراف وقوانين المئات من قبائل الجنوب، إذْ، ما معنى أن تدهس سيارةٌ يقودها شخص، أيّ كان، رجل أو امرأة أحدَ ابناء عشيرتك، فتلجأ الى المستشفى تعالجه، والى القانون فتجعله فيصلاً بينك وبينه، ومن ثم تسامح وينتهي الأمر؟ أبداً، لم نسمع بمثل هذه منذ زمان، فقد دأب الغالبية من الشيوخ على جعل أعرافهم قاسية، مهلكة، ولم يراع أحدهم- اللهم إلا القلة منهم- ما إذا كان الحادث مقصوداً أو غير ذلك، إنما وضعوا المال والانتقام إن لم يكن التهديد بالقتل حلاً لا ثاني له.
واحدة من أقبح جرائم حكومات ما بعد 2003 هي تعطيل نظام المرور، وترك الحوادث بيد العشائر، كما أن واحدة من أقبح منتجات مجالس المحافظات هو تشكيل مجلس للعشائر داخل المباني الحكومية والرجوع إليها في القضايا التي تحدث بين النواب وأعضاء المجالس، الأمر الذي جرّأ أتفه خلق الله، من الشيوخ وأقطابهم على تهديد القضاة ورجال أجهزة الأمن والاعتداء على المؤسسات. إذا بحثنا في مسببات تعطيل القوانين في العراق نجد إن الحكومة ذاتها هي السبب، وما اللجوء الى شيوخ العشائر في قضايا المرور والصحة والتربية وبقية الوظائف المدنية إلا واحدة من تفاهات التحوّل، سيئ الصيت، والمزعوم في الحياة العراقية.
ما نقرأه في الصحف وعلى صفحات التواصل الاجتماعي من سخرية ونقد لتغول سلطة العشائر في الدولة العراقية لن يغيّر من طبيعة هؤلاء، ذلك لأن لازمة أخرى باتت تعمل على ترسيخ مبادئ العشائر ألا وهي متوالية العشيرة والحزب الديني، وبشكل أوضح العلاقة النفعيّة بين الفصيل المسلح والعشيرة. ومن يبحث في تركيبة العنف داخل مجتمع مدن الجنوب( البصرة-العمارة-الناصرية) وبعض مدن الفرات الأوسط يجد الآتي: تستقوي العشيرة ببعض رجالها العاملين في سلكي الجيش والشرطة، ويتضاعف نفوذها المسلح بوجود آخرين في صفوف الأحزاب الدينية ، ثم جاء الحشد ليضيف الى قوة العشيرة قوة ضاغطة ومسلحة، لذا أصبح من المستعصي فك لغز(العشيرة-الحزب الديني- الحشد) .
إذا كانت حكومة صدام حسين قد عملت على تبعيث وتسليح المجتمع من خلال منظمات حزبه (جيش شعبي، جيش القدس، فدائيو صدام..) فقد كانت قبضتها محكمة على الجميع، ولا يجرؤ أحدٌ على الخروج والعصيان وتهديد الأمن المجتمعي إلا بأمر السلطة العليا، أما وضع العراق اليوم: فالحكومة لا تملك سلطة على أحد، ولو شاءت عشيرة، أي عشيرة، حزب مسلح، مليشيا، مجموعة من خمسين مسلحاً احتلال مبنى المحافظة، أي محافظة لسقطت في ساعات. ما يهمنا في موضوعنا هنا، هو أنَّ الحكومة لم تنجح في تحقيق الأمن المجتمعي، إنما تركت سلطة العشائر تتغول وتفرض قوانينها على الناس الآمنين. درس هناء إدورد الأخلاقي لن ينفعنا، هناك من يسخر من أخلاقنا، نحن المدنيين.