طالب عبد العزيز
نعم، أنا منها بشيء، وأكثر حبة الرمل التي لم تبلغها الأمواج يوماً، لكم كان قريباً منها، الماء، الذي يغضبها نأيه عنها. أنا منها بشيء، وأكثر القنطرة المهجورة أعلى السباخ،
تلك التي لم تطأها قدم منذ سنوات، وهذا العشب الذي ظل ينمو تحتها، لكم كان كثيفاً، أسأل الأسماك، قريبة منه، وما أنا عنها ببعيد أبداً، شجرة التوت، التي تعملقت وغلظت حتى لم يعد أحدٌ يتسلقها. ياه، يا لأشتجارها وتشابكها هناك، في السماء البعيدة. الطيور تمر عليها فلا تقف على أحد من غصونها. مثلكِ أنا، أيتها المرساة التي تفككت أخشابك، يوحشني أنْ لا أحد ينتظرني، وقد استعملتني الدهور .
نعم أنا منهم بشيء، أولئك الذين لم يعانقهم أحدٌ منذ زمان، أولئك الذين هجرتْ أكفَّهم المجاذيفُ، وانقضت أحلامهم برؤية الأشرعة، منهم أنا بشي وأكثر، الذين أطالوا التأمل بالنخيل وهو يترامح في السماء، دون أنْ تؤاتيهم القدرةُ في صعوده، وظلت أحلامهم معلقة بين السعف والسماء. أولئك الذين تزدحم المشافي بهم، كانت المقاهي والأرصفة والحانات واحدة من سعاداتهم، أولئك الذين يقتعدون الكراسي المتحركة، أمام منازلهم، لا يجدون أحداً يبثونه حشرجة الخطى وغصة المشي التي بأقدامهم.
لا أنسب لأحد منهم كري النهر العظيم، هذا أبداً، ولا لأي أحد منهم بناء المسناة العريضة تلك، كذلك لن أكون مضطراً لاتهم أيّ منهم باقتلاع الشجرة العملاقة، التي يطالعني صمتها منذ ستين عاماً، لست ممن يتصفحون الكتب هذه أو تلك، فأنا رجل أميٌّ وغامض بعض الشيء، لكنني على يقين تماماً بأن المنجل هذا الذي ينغرز في خص القصب منذ عشرين عاماً هو لأبي، خاصته، لطالما رأيته معقوفا تحت حزامه. الى هناك، تأخذني رائحة خشب قبضته، الى الشجرة الملقاة أمام بيتنا منذ ستين عاماً.
ما لا يتكرر في الستارة هو نظرتك الى الحديقة، رائحة الدرّاق في الفسحة أسفل النافذة، أدعوها فتأبى ذراعُكَ، ذات الوشم الإفريقي، التي كانت تحت رأسي البارحة، ما لا يحول بين قميصك وقميصي هو الوجيب الخفي لقلبك، خصمي، كل مزلاج لا يستجيب ليدي فلا أراك، كل مسحاة مسندة الى حائط من الطين هي لك، وكل صفحة للماء لا أراك في رقراقها ليست لي، موسر وغني كل قمر يطالعني من جهة قبرك.على المشجب قميصٌ أسأله ما إذا ظل من وجومك شيئ فيه.
تكشف الريح عن أثر في السباخ، الفلاحون أضلوا الطريق الى التوت، أضاعوا المحاريث والدلاء والسلال هناك، في المجاهيل النائية، ها نحن نلتقط الصور، نكتب أسماء من لا أسماء لهم، وندوّن ما لم تبح السنادين به، وما لا يتكرر الريح من قبضاتهم. وهذا الابدُ السَّفرجلُ رائح وغادٍ، يفسر المقصَّ الذي يقلمه، يبتكر شكل الأقفاص التي ستكونها أغصانه الفارعات، اما الحجارة أسفل المسناة، تلك التي يخفي الموج هيئتها الاولى، هذه التي بين الماء القديم والماء الجديد، أنّى لي أن أسألها عن الاقدام التي توالت عليها. كتلة الصوان هذه، التي لم يجرؤ أحدٌ على اقتلاعها، لطالما رأيته، أبي، وهو يطمئنها بين الجذوع. لم ينحتها رحى لقمحه، وما اتخذها كيلاً لتمره وقمحه وشعيره. كانت السنواتُ قصيرةً، فتعجلها، لحظةَ لم تمهله أكفُّ المشيعين.