لطفية الدليمي
أعكف هذه الأيام (حزيران 2019 ) على ترجمة عملٍ بعنوان ( الفكر العابر للإنسانية : تأريخ موجز ) كتبه البروفسور ( نِك بوستروم ) .
لستُ هنا معنية بالحديث عن مفهوم ( الإنسانية العابرة للكائن البيولوجي ) ؛ فذاك أمر سيأتي أوانه بالتأكيد في الكتاب ؛ لكنني معنية هنا بمؤلف العمل - البروفسور ( بوستروم ) ذاته .
أحرص قبل كل عمل ترجمي أباشره - وأحسبني أتشارك هذا مع كلّ المترجمين - بإجراء خارطة مسحية تفصيلية للمؤلف، وغالباً مايكون لي معرفة مسبقة عامة عنه؛ لكن ثمة فرق بين المعرفة العامة وتلك التفصيلية التي تسعى لمعرفة التفاصيل الصغيرة ، وينسحب البحث إلى المادة المترجمة ذاتها، أعجِبتُ كثيراً بالسيرة الذاتية للبروفسور ( بوستروم ) وهي سيرة تليق بمفكّر موسوعي يستحقّ توصيف مثقف حقبة مابعد الإنسانية التي أصبحنا نقف اليوم على تخومها ونحن ندلف عصر الثورة التقنية الرابعة .
يعمل البروفسور ( بوستروم ) أستاذاً للفلسفة في جامعة أكسفورد ، وقد أسس مركز أبحاث ( مستقبل الإنسانية ) في هذه الجامعة . تخبِرُنا سيرته الذاتية إنه ولِد عام 1973 في السويد ، وكان كارهاً للمدرسة منذ صباه وأمضى سنواته فيها على مضض ؛ لكنه لم يتحمل بقاءه فيها آخر الأمر، فأمضى السنة النهائية من المدرسة الثانوية يدرس في المنزل دراسة ذاتية ، وقد فتحت له هذه السنة أبواباً مغلقة؛ فما كان منه إلا أن اغتنم الفرصة وراح يعلّم نفسه مباحث شتى في الأنثروبولوجيا والفن والأدب والفلسفة والعلوم ( الرياضيات والفيزياء بخاصة ) ؛ بل حتى إنه قام بأداء بعض العروض المسرحية الكوميدية في أحد المسارح اللندنية الجوّالة ! .
حصل ( بوستروم ) على شهادة البكالوريوس في كل من الفلسفة والرياضيات والمنطق والذكاء الإصطناعي من جامعة غوتنبرغ السويدية عام 1994، ثمّ أردفها بشهادتي ماجستير في كل من الفلسفة والفيزياء من جامعة ستوكهولم عام 1996 ، ثمّ أضاف لها شهادة ماجستير ثالثة في السنة ذاتها ( 1996 ) في حقل العلوم العصبية الإحتسابية من كلية الملك في لندن، ثم توّج مسيرته الأكاديمية بشهادة الدكتوراه في الفلسفة عام 2000 من مدرسة لندن للإقتصاد ، ومنذ ذلك الحين شغل البروفسور ( نوستروم ) مواقع أكاديمية مرموقة في كبريات الجامعات البريطانية والأمريكية ، ويعدّ الأب المؤسس لحركة ( الإنسانية العابرة للكائن البيولوجي الحالي ) وكتب في هذا الميدان عشرات البحوث؛ بل أنه كتب ( إعلان الإنسانية العابرة ) الذي ضمّنه في الكتاب الذي أعمل على ترجمته وأشرت إليه في مفتتح المقالة .
ليس البروفسور ( بوستروم ) مثالاً غريباً في ميدانه ؛ فثمة الكثير من أمثاله في زمننا . إنّ مايثير حزني وألمي كلّما قرأت عن أمثال ( بوستروم ) هو التساؤل التالي : ماذا لو وقف طالب عراقي لامع أمام أبيه وقال له : أبي ، لم أعد بحاجة إلى المدرسة وأريد أن أتعلّم ذاتياً ! هل يبدو أمراً معقولاً أننا لم نشهد ( بوستروم ) عراقياً ؟ كلا ، لابد أنّ هناك المئات من هذا العبقري وربما الآلاف، غير أن ( بوستروم ) العراقي كتم صرخته ونبوغه في قلبه حتى خذل نفسه أو خذلته الحياة العراقية بأوضاعها القاسية، وانتهى به الأمر ليبتلعه التراب باكراً أو لينتهي مخذولاً ونسياً منسياً .
هل تقدّرون كم ( بوستروم ) عراقياً خسر نفسه وخسرناه؟