طالب عبد العزيز
في بغداد التي أدخلها مرة أو مرتين في السنة، أراني جديداً، أنظر الى وجهي في المرآة فاجده بسمرة أقل، هناك شيء من بياض في بشرتي غيّرت ألوانه شمسُ البصرة المحرقة،
أمرر يدي على شعري بعد كل حمّام، فيتغير ملمُسه، شيء من لين وطفولة في الماء الذي تغرفه محطات الإسالة من دجلة العظيم فيرطب كل ما حولها حولي، لا أكتب مديحاً، فقد يجد بغداديٌّ أصيل فيها غير ذلك، في بغداده، التي تغيرت في الزمن وتراجعت كثيرا في العقود الأخيرة الماضية.
لا أجدني فرداً في مديحي للمدينة الخالدة بروح وضمير كل عراقي شريف، فهذه مدينة تجدد نفوس ساكنيها وزائريها على حد سواء، إنما أشرك في ذلك المديح أصدقاءً ومحبين، من الذين التقيتهم فيها، والذين قدموا من المانيا وفرنسا وشاركوني الفعاليات الثقافية، التي أقامها المركز الثقافي الفرنسي بالتعاون مع معهد غوته الألماني، احتفاءً بإصدار كتاب انانا -الجزء الثاني، لأديبات عراقيات. ولعل مصادفة اقامتنا في فندق بغداد المطل ببهائه على نهر دجلة، لعل النادلة التي قدمت البيرة لنا في بهوه الليلي أضفت وتضفي الكثير علينا، بما احالنا الى بغداد التي ظلت قابعة بجمالها كله في المخيال الإنساني، يوم كانت مشرق نور الكون وغيمة الألق التي لا تغيب.
حرص الأصدقاء الأوربيون على أن يكونوا في المتنبي صباح الجمعة، ولم تكن الشمس الحزيرانية عائقاً، ثم انهم سبقونا اليه، لم نتمكن من النهوض باكراً، فقد تعتعنا السكر في الليلة قبل البارحة، وغلب النومُ الشهريارَين البصريَين فسكتت بغداد عن الكلام المباح، وطلع الصباح علينا من شرفة تطل على دجلة. ومن ذا يقاوم سحر صباح بغدادي يهبه دجلة العظيم، أنّى لهذا الجسد المضنى أن لا يظل نائماً في سرير لا تتكر الصباحات الجميلة عليه كثيراً. لكننا، وقبل أن يصيح خطيب ُوإمامُ جامع الحيدر خانة بالناس الى الصلاة، كان سائق الأجرة قد بلّغنا مرادنا على عتباته، فدخلنا الشارعَ من قصيدة على الماء، تحفُّ قدمي الشاعر المتنبي الكبير، كان سراي الكتاب عامراً، وباعة الجمال في كل مكان، ومتبضعو الحكمة من حولنا، يطوفون في المتاح من الأمكنة.. وكان للناس عيد.
أنا لا أكتب مديحاً، ولن أنكأ جرحاً في بدن المدينة، أنا هنا لأحتفل مع نفسي ببغداد روحي، لكنَّ زوجة السيد فنسنت مدير المركز الثقافي الفرنسي ما انفكت تتصل به، تسأله ما إذا كان بخير حتى الآن، وهو الضحوك، ذو الوجه الطفلي. يقول بأنها تتصل به عقيب كل عشر دقائق، فيجيبها بأنه ما زال بخير، وأن المدينة ما زالت آمنة، وأن الناس يمضون يومهم بفرح غامر. بدا لي أنها لا تصدقه، ذلك لأن صورة بغداد في وسائل الإعلام مشوهة جداً، كما أنني لست على يقين بأنه ظل مصدقاً أن حياته في بغداد على الدرجة هذه من الأمان. مقلق أن تكون صحبة أصدقاء في مدينة لا يمكنك ضمان حياتهم فيها. ربما نكون نحن، العراقيين استمرأنا حياة الخوف، أو اللامتوقع من الحياة والموت فيها، لكننا، محبطون من رؤية مدننا غير آمنة. أتحدث عن الصاروخ الذي أُطلِقَ على احدى الشركات النفطية في البصرة، عن المعلومين الذين أطلقوه فصمتت عنهم الحكومة، هذه التي تصمت عن مواعيد موتنا ايضاً.