علاء المفرجي
قتيبة الجنابي المخرج المغترب بجسده والمنتمي بروحه الى الوطن .. والذي يكاد ينفرد عن زملائه المخرجين العراقيين بدقة موضوعاته واختلاف ثيماتها ..
مارس التصوير الفوتوغرافي في واحدة من أهم الصحف العراقية سنوات السبعينيات جريدة طريق الشعب، ولم يكن يتجاوز الثامنة عشرة.. وهو ما جعله في ما بعد أحد مبدعيها... لكن ذلك لم ينسه عشقه الأول للسينما.. التي ولجها بأفلام قصيرة حظيت باهتمام نقدي مهم ،
يرى إنها كانت تمريناً قبل خوض تجربته الأولى في الفيلم الروائي الطويل من خلال فيلم (الرحيل من بغداد) ،
العراق، المنفى، وعشق السينما وتجربة امتدت لأكثـر من ثلاثة عقود مع الكاميرا، هي المحاور التي اعتمدها الناقد أحمد ثامر جهاد في حواره في صفحة سينما مع هذا المخرج .
آخر أفلامه هو قصص العابرين الذي نال عنه قبل أيام جائزة افضل فيلم تجريبي في لندن وهو أيضاً سيرة المخرج الذي جال في المنفى كل هذه السنين، عبر صور فوتوغرافية وأفلام قصيرة لم يعرض قسماً منها حتى الآن.
فأفلامه لم تخرج عن موضوعة المنفى أكثر من 40 عاماً وهو يصور في محاولة لتحويل المأساة الى مساحة إبداعية شديدة الخصوصية وقوة دافعة للأمام، كان يود أن يدون المنافي والأيام فوتوغرافياً وسينمائيا مازجاً أحاسيس انسانية مشتركة لكل من يتعرض لفقدان الأحبة والابتعاد القهري عن المكان الأول.. فيلم بدأ العمل به قبل أربعين عاماً وهو مشروع ذاتي ذو تمويل ذاتي ابتداءً من اللقطة الأولى.
تضمن الفيلم عرضاً لصور فوتوغرافية في أمكنة وأزمنة مختلفة ترسم حدود المنفى وتشير إليه، صور ترتهن موضوعاتها بشروط المنفى وعسفه، حملها قتيبة الجنابي هذه السنوات كصليب. ومثلما تضمنت هذه السيرة أفلاماً صنعها المخرج خلال مسيرته والتي حاكت موضوعاتها جوانب المنفى.. ففيلمه الروائي الطويل (رحيل من بغداد).. إلى أي مدى يلقي المنفى بكل تفاصيله وهمومه بظلاله على منجزك الفني، فهو تتويج لهذا المسعى بعد سلسلة من الأعمال عزفت على وتيرة هذه الثيمة.. لقد حاول في هذا الفيلم وطبقاً لفهه الخاص للمنفى أن ينقل العراق إلى المنفى وليس العكس، فالعراق كان منفياً أيضاً بشخوصه وأحداثه، فالمنفى صار جزءاً من الثقافة العراقية.
أما في فيلمه القصير (حياة ساكنة) فكانت هناك العزلة أيضاً بل الموضوع نفسه هاجس الملاحقة والخوف من المجهول
ففيه حاول رصد أثر العيش في المنفى والخوف من قدر يترصده .والفيلم عن رجل في مكان (في غرفة صغيرة) في إحدى بلدان الشتات يشعر بأنه مرصود من الآخر المتربص له في الشارع أو المقهى أو في الباص وربما هو ليس إلا وجوداً شبحياً أسكنه الخوف في رأس هذا المنفيّ.. وهو شعور توضح أكثر في (الرحيل من بغداد) ربما لأنه فيلم روائي طويل ويتيح هامشاً كبيراً لإيضاح التفاصيل.. باختصار إنها تجربة حياتية ..
أما فيلمه(الرحيل من بغداد)، نأى بموضوع فيلمه، عن نمط الموضوعات التي درج عليها زملاؤه السينمائيون العراقيون بعد 2003، والتي لم تتعدَ إطار توثيق واقعة الكارثة العراقية بأبعادها المختلفة بتقريرية ومباشرة، قبل وبعد سقوط النظام.. وهو توثيق استهلكته محطات التلفزة حد الإسراف..وأصاب ثانية، عندما اختار أن يعالج موضوعته هذه المرة في فيلم روائي طويل، بعد تجارب ناجحة في الوثائقيّات والأفلام القصيرة..اختار الجنابي في فيلمه هذا موضوعاً حرص أن يكون مسحاً لحقبة من التسلط والقمع امتدت لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، ضمنها سيناريو متقن ومحبوك مزج أحداثاً واقعية، بما هو روائي متخيل، وكان أحد أهم عناصر نجاح الفيلم، سيناريو لم يعتمد سرداً متصاعداً للحدث من شأنه أن يقصي عامل الصدمة والتشويق لدى المتلقي، وهو ما يحسب للجنابي خاصة مع استخدام الوثيقة التي أخذت مساحة كبيرة من زمن الفيلم.