فخري كريم
بعد مخاض عسير، شهدته البلاد اثر سقوط أعتى الدكتاتوريات في عصرنا، اخذت تتحدد بصورة أوضح ملامح القوى التي تتشارك في إعادة بناء العراق الجديد،
وتتفاعل برغم التجاذبات والتباينات، في إرساء أسس وطيدة للدولة العراقية المنشودة.
... دولة يراد لها ان تكون ديمقراطية اتحادية، تنهي مرحلة غيبت إرادة الناس وتلاعبت بمقدراتهم.. ولم تشهد غير الخراب والتصفيات الدموية وتبديد ثروات البلاد البشرية والاقتصادية والثقافية وزرع الأحقاد...
وخلافاً للتجارب التاريخية في بناء النظم الديمقراطية التي تنطلق من عملية التراكم والتحول النوعي، فان الدولة العراقية لم تراكم بفعل تعاقب الأنظمة الدكتاتورية،
غير رصيد متآكل من قيم ومفاهيم الطغيان والاستبداد، لتنهار تحت ثقل جرائرها، قبل ان تتهاوى بفعل الحرب، ولتصبح مجرد (خردة) تتقاذفها أرجل ضحاياها من العراقيين فوق أرصفة البلاد وأزقتها، تتطاير سجلات سيرتها وشهادات سلوكها في فضاء العراق، وتلتهم النيران بعضاً من وثائق إدانتها... وكأن الشعب المبتلى لم يشبع من بطش المستبدين الذين تعاقبوا على استباحته، فنظم أزلام الدكتاتور وبقاياه واشباهه ممن تشبعوا بفكره ونهجه واساليب بطشه، حفلات القتل والتصفيات تحت شعار "الجهاد" "المفخخ" والقنص والخطف والترويع وهتك الاعراض، وهماً بامكانية استعادة سلطة منهارة.
نعم لقد "التمَّ" العراقيون بمكونات طيفهم الفريد، عرباً وكرداً وتركماناً وكلدو- آشوريين، مللاً وأشياعاً، طوائف "كدَّر" الظلم والإجحاف والتهميش صفو نفوسها الكريمة، وبدت كما لو انها خرجت للتو من القمقم"، تنشر أهازيجها بمفردات تبدو للآخرين في هذا العالم الراكد المتميز ببطش سلطة "الفرد الخالد" والحاكم الأبدي، واللون الواحد، خارج السرب، كما لو انه مشهد سريالي، خارج التاريخ!
لكن هذه "الغرابة" نفسها تؤسس لديمقراطية العراق، التي ستفوح منها ريح طيبة في شتى الأرجاء، إذا واصل بناتها الجدد توطيد صروح تجربتهم الرائدة عبر تكريس روح وقيم هذا العصر العاصف.. عصر الحريات وحقوق الإنسان وتقرير مصير الأمم والشعوب ودولة القانون والحقوق المتساوية للمرأة، وكل ما يضع الإنسان في مركز القرار والكينونة..
قد يعيبون علينا مشاربنا المختلفة.. دعهم يفعلون ذلك فشاشات فضائياتهم التي تعمدت منذ سقوط الجلاد نشر الفجيعة وتعميم الإرهاب والنعيب على خرائب نظام سيدهم المنهار ستثير الهلع في نفوس الحكام المستبدين عندما تعرض هي نفسها مشاهد فسيفسائنا وهي تتنادى للمشاركة في حكم البلاد،من دون رغبة في اقصاء أو تهميش أو استقواء أو انفراد!
هاهم قادة البلاد على مساحة شاشاتنا.. عرباً شيعة وسنة، كرداً وآشوريين وتركمان، أقليات وأفراداً متباينو الآراء والارادات، يدخلون إلى التاريخ، في الوقت الذي يستعد فيه المستبدون للخروج منه إلى ... النسيان!
اليوم يكتمل المشهد في مشواره المجيد نحو استعادة المزيد من ارادة السيادة والاستقلال واستكمال مقومات "اخلاء البلاد" من الغرباء أياً كانت دوافع اجتيازهم لحدود بلادنا، وتنظيف وطننا من القتلة والإرهابيين الذين تسللوا لزرع الفتنة والدمار في أرجائها
ها هي الشاشة... تنقل مشهد فعل غير مألوف في تاريخ العراق الجديد:
مشهد الشعب يتحدى عجرفة الجلاد وادعاءات المستبد وأوهامه الواهية وأضغاث أحلامه.. مشهد الشعب إذ تتجسد إرادته في انتخاب قادة البلاد من كل الطيف الوطني، لتتشكل منهم لوحة الديمقراطية الواعدة.. المبشرة.. النذيرة..
مشهد يترأس فيه عربي سني برلمان العراق ..
وسيسمى عربي شيعي ليرأس مجلس الوزراء..
ثم ينفتح المشهد على كردي استثناه صدام حسين من (عفوه الرئاسي).!
مشهد يطل منه جلال الطالباني رئيساً للعراق الجديد، منتخباً بإرادة حرة، طاوياً سيرة وطن جريح يتعافى، وجلاد مخبول قال له يوماً مثلما قال لرفيق دربه مسعود البارزاني:
ربما سأمنحكما فرصة مشاهدة عاصمة وطنكما بالمنظار!..