فخري كريم
في افتتاحية سابقة تحدثنا عن أهمية استقلال الدولة وابعادها عن طموحات الأحزاب والطوائف في بلدنا الذي لم يؤسس له تقاليد ديمقراطية بعد.
نؤكد هنا إننا لم نكن مدفوعين في طرح هذا الموضوع، والعودة إليه مجدداً، بهواجس غامضة، ولا أردنا استباق ظاهرة نتوقع لها الظهور، فتجربة السنتين الماضيتين قدمت أدلة كافية على استخدام الوظيفة لمصلحة ضيقة ذات طابع حزبي أو طائفي. إننا نجد في الماضي البعيد والقريب شهية واضحة لاستخدام الدولة والسيطرة عليها من قبل الأحزاب والطوائف. فالدولة العراقية، لأسباب عديدة، امتلكت النشاط الاقتصادي وسيطرت عليه، كما امتلكت القوة العسكرية في وسط اجتماعي متفكك، مما جعلها محط أنظار النخب السياسية التي سعت إلى السيطرة عليها لكي تسيطر على المجتمع بواسطة القوة العسكرية وإغراء الوظيفة والدخل الثابت، أي بكل ما تستطيع الدولة أن تقدمه، فضلاً عن السلطان والجاه والتنظيم الكامل القائم على الهيمنة.
لم تستطع النخب السياسية أن تؤسس دولة مؤسساتية تداولية، فالنظم السياسية المتتالية بقدر ما ضربت عرض الحائط مصالح المجتمع، وطنت الدولة على الإنحناء لها، ووطنت المجتمع على أن يجد في الدولة عدواً له، أو النظر إليها بوصفها مجالاً للانتفاع. إن أمراض الانتهازية السياسية في العراق تولدت تماماً عند مناطق العبور السهلة للنخب السياسية لاحتلال الدولة أو استخدامها لمصالحها الضيقة.
تشكل السنوات الخمس والثلاثين الماضية من عمر النظام الدكتاتوري درساً مهماً على تحويل الدولة من آلة تنظيم اجتماعي إلى آلة لسيطرة سياسية شاملة على المجتمع. لقد تحولت الدولة في تلك السنوات إلى مجرد مطية يركبها أزلام النظام والحزب الواحد، بل العائلة الواحدة، حتى أن صورة الدولة غابت وحلت محلها صورة النظام السياسي، ووصل الأمر إلى مصادرة المجتمع كله، وتحول إلى مجموعة من العبيد المفككين، ولم يعد يسمع لا من الدولة ولا من المجتمع غير صوت واحد، هو صوت النظام السياسي الشمولي.
لقد بتنا نعرف أكثر مما مضى إلى ماذا آلت إليه دولة غيبها النظام السياسي وأخفاها تحت أبطيه الثقيلتين، فبموت النظام السياسي ورحيله تفككت الدولة وجرى الانتقام منها كما فقد المجتمع السيطرة على نفسه.
نحن إذن لا نستبق ظاهرة عادية، ولا نؤشر إلى مخاطر تقع في الظل، أو لما تقع بعد. إنها ظاهرة شكلت التاريخ السياسي العراقي للدولة نفسها وللمجموعات السياسية الطموحة التي كانت اجتماعياً وتاريخياً تمثل قوى ما قبل الدولة التي اتخذت من الشعارات القومية والدينية معبراً لها لركوب الدولة وتحويل مضمونها الاجتماعي.
ثمة حقيقة مثيرة ظهرت بعد سقوط النظام السابق، فهذا السقوط لم يطلق أسر القوى السياسية وحدها، بل قوى ما قبل الدولة نفسها التي مارست دوراً متسلطاً بشعاراتها الخاصة. إن القوى الأخيرة لها مصادر مختلفة، وقوتها تعكس ضعف التنمية السياسية والثقافية والبشرية السابقة، وهي وليد مجتمعي يمكن أن تتغير مسمياته، وأرديته، وشعاراته، لكنه يظل مزروعاً في عمق تاريخي لم يجرِ تفكيكه بتنمية متناغمة أو يجرِ انتشاله من قيمه المعادية للديمقراطية، إن هذه القوى بمجموعها تمتلك شهية للامساك بالسلطة لكي تفصلها على مقاييسها الضيقة، مستخدمة شعارات المرحلة أو أي شعارات تستهوي الشارع أو تولدت بسبب ضغوط سياسية مختلفة، أو تلاقح سياسي فرعي.
علينا الانتباه إذن من صعود هذه القوى على السطح السياسي من دون تأهيل وإعداد سياسي وثقافي كافيين، فضلاً عن ذلك تقدم الظروف الانتقالية الحالية وسطاً نموذجياً لتوليد الانتهازية السياسية، ولاسيما عند مفاصل إعادة البناء السياسي للدولة، وإعادة تأهيلها بعد كل الخراب الذي أصابها.
لقد أخفت الظروف الأمنية الحالية، وانعدام الأجهزة الرقابية في الدولة، تسلل هذه الظاهرة إلى الدولة أو قللت من شأنها مقابل صعود ظاهرة الفساد وشيوعها، في حين إن الظاهرتين متجاورتان وتلتقيان في النهاية. إن (القبض) على الدولة سياسياً من بعض الجماعات يترافق تماماً مع الفساد الإداري والمالي، وكل تواطؤ سياسي لاستخدام مؤسسات الدولة والصعود عليها يؤدي إلى فساد ترعاه السياسة وتحميه. ومن المفهوم أن تحويل الدولة إلى مطية لتحقيق أهداف سياسية للأحزاب والطوائف حتى لو تم بأفضل الشعارات والنيات ينتهي إلى إغراق الدولة بالمتواطئين، وبالمحسوبية، والرشوة، وتمرير الصفقات المريبة.
أليس هذا ما حدث لدولتنا التعيسة الحظ؟ ألا يحدث الآن؟ دعونا إذن نؤكد على مصادر أخرى قد تتولد عنها إمكانات مثل هذه، قد لا تظهر الآن، بل في المستقبل، فالدولة العراقية هي اليوم قيد التأسيس وإعادة البناء، في حين أن النخبة السياسية الصاعدة من الانتخابات الديمقراطية، التي تجد ترجمتها في التشكيلة الوزارية الجديدة، سوف تبدأ مهمتها التأسيسية المباشرة في تقسيم المناصب الوزارية، وهو أمر طبيعي ولا غبار عليه، لكن عليه أن يتم بضوابط حتى لا يتحول إلى احتلال، واحتلال يمكن أن ينطلق اليوم من الشرعية ومن المهام التأسيسية المعقدة التي ستواجه بمشكلات ضعف الأداء الحكومي، وعدم الثقة بالأجهزة السابقة، وعدم ولاء الموظفين، والفساد، وتصلب مفاصل ، والتهابات.. الخ، مما يعني إعادة بناء إداري واستخدام طواقم عمل جديدة، وتوزيع مهام، وخلق وظائف جديدة، وإدخال عناصر تتصف بمعايير مناسبة. فمن يقرر كل هذا؟ وكيف يمكن حماية هذه العملية من التطلعات الخاصة للمسؤولين أو الوزراء وطواقمهم؟ وإلى أية مرجعية تستند قراراتهم الجديدة ؟وأية مصالح تمثل؟
هذه الأسئلة مشروعة. ودرءاً لأي التباس نعتقد أن فكرة تقاسم المراكز القيادية وإعادة التقييم الإداري كلها تحتاج إلى تقعيد ديمقراطي وضوابط مناسبة، لكي لا تكون متماثلة مع معاني (تقاسم) نفوذ أو (تقاسم) غنائم!
تخلق الحالة الانتقالية مجموعة من التبريرات، الكثير منها صحيح ومدعوم بالوقائع. لكن هناك الكثير من الهواجس ايضاً، والدوافع غير العاقلة، والشائعات، والتقارير المتضاربة، والارقام غير الدقيقة، وعدم الشفافية الذي تتسم به الاعمال المكتبية. كل ذلك يجري ضمن مناخ سياسي تعيد القوى السياسية فيه اصطفافاتها السياسية على وقع التجربة والحس بالمخاطر، والرغبة في تمثيل نفسها، والطموح الى احتلال مواقع قادرة على التأثير بالآخرين. ان الدولة لا تقف بعيداً اليوم عن كل هذا. انها ضعيفة، ومستسلمة لمباضع الجراحين وعيون المتسلقين.
علينا ان نميز بين الدولة والنظام السياسي، ونحرر الاولى من مزاعم الفائزين وسخط الخاسرين، وقبل كل شيء علينا تحويلها إلى آلة تستجيب للتطلعات الديمقراطية، بتحويلها إلى وسط ديمقراطي من دون ان نفجرها بالنزاعات من الداخل.
ليست الدولة مكاناً للعمل الحزبي، ولا مجالاً حيوياً للتعبير عن الاحزاب والطوائف والجماعات، ولا سلماً للتسلق وحيازة سلطة بقبضة قوية. اذا كان الدستور الديمقراطي يستطيع ان يصف مهام الدولة، فانه لا يستطيع ان يخلق بشراً بين ليلة وضحاها يحترم الارادة الاجتماعية المعبر عنها دستورياً.
الكثير من الدساتير العربية لا غبار عليها لو نفذت. فمن هو المنقذ؟
ها نحن ننوه، ونستبق، ونحذر