فخري كريم
الآن وقد انتهى القتال في تلعفر، وبدأ المواطنون يعودون الى منازلهم التي هجّروا او هربوا منها، نود ان نرى الجميع يعود الى المنزل الأكثر امناً وهو العقل.
فبالعقل نستطيع، اذا شئنا، شن حروب حاذقة يربح فيها الخاسرون، والرابحون يتوجون وتلقى عليهم الازهار.
العقل سلاح، واللغة التي تعبر عنه هي اقتصاديات كاملة تعوضنا عن كلف الدم والدمار، والاثنان يدعوان الى القاء الاسلحة المميتة. وإذ ندعو للعقل واستخدام الكلمات بدلاً من الاسلحة، فانما ندعو الى الحوار، والمكاشفة، واعتماد السياسة، ورد الافكار الى حركة الواقع.
العراق اليوم مملوء بالاسلحة القاتلة، والاحقاد، والمشكلات الخطرة التي أجّل حلها فبات المرء يثب منها الى سلاحه لحسم ما يعتقد انها حقوقه او ليجد حلاً. ولم يختلف عراق اليوم كثيراً عما كان عليه في الماضي في بعض النواحي، فهو لا يمتلك طبقة سياسية مدربة على احترام الواقع، وبسبب عسرة الواقع وتشابكاته الجديدة، دار السياسيون دورة على انفسهم عائدين الى تحزباتهم الضيقة او الى طوائفهم.
الاحتلال الامريكي زاد من الطين بلة، فقد اجهز على العمل السياسي، وخلق الظروف التي تجعل من الافكار حججاً والاخيرة رصاصاً، وطرح بجهالة او بتعمد مهمات جديدة يعاد فيها بناء الدولة من الصفر، مما يعني ان مرجعاً في السياسة والمعرفة اختفى من حياتنا، وها هي مهمة اعادته الى الحياة تصطدم بارادات سياسية لها مصالح غير متجانسة، تتخندق داخل مراجعها الاولية (عشيرة، دين، طائفة، عائلة) اكثر مما تقوم بتفاعل وطني.
في مثل هذه الظروف ينمو الارهاب على اخطاء السياسة، ويقوي نفسه بالمراجع الاولية التي باتت متنافسة، ويزيد عليها تأويلات ومزاعم خاصة، ويختفي وراء حق الرد والمقاومة، ويجر خلفه بيئات اجتماعية لم تتكيف للعمل السياسي، ولم تجربه اصلاً، خافياً عنها ستراتيجيته المخيفة في تنظيم المجتمع بواسطة السيف.
للعراق اليوم حكومة ازاء مهمات تأسيسية، فهي حكومة تؤسس لحكومة دستورية، وقبل كل شيء تؤسس لدولة دستورية جديدة. حكومة ازاء مهمات مثل هذه تحتاج الى ان تكون اكثر يقظة على مصالح شعبها من دون تمييز، مستخدمة مقاييس واسعة سعة العقل الذي أثنينا عليه في البداية. لكننا رأينا كيف ان هذه الحكومة نفسها هي التي انهت قبل اسابيع مشكلة تلعفر بقوة السلاح بعد أن اعتقدت انها استنفدت الوسائل السلمية.
نحن نعتقد- ومثال تلعفر بالنسبة لنا هو مثال حاضر وقريب ليس الا- ان المقاييس السياسية جرى ليُها بضغط الارهاب وجهل الحكومة، مثلما ان الانقسام السياسي الحاصل اليوم يتغذى هو الآخر على الارهاب وسياسة الحكومة، وعلى طبيعة العملية السياسية التي جرى حصرها في ميدان ضيق.
نحن لا نستطيع ان نتوجه الى جماعات الارهاب ونحاورها، فلسنا نعرف لها وجوهاً وسياسة. كلماتنا تتوجه الى الحكومة والقوى السياسية العاملة اذن، فهم ليسوا اشباحاً، ولا نظن انهم يريدون التحول الى اشباح.
ثمة سؤال: كيف حدث ان استطاعت قوى الارهاب السيطرة على مدينة على نحو أفقد سكانها ارادتهم وقدرتهم على المقاومة، ثم وصل الامر الى ان تكون الحرب وحدها السبيل الوحيد لاخراجهم منها؟
وثمة سؤالان رديفان: أين كانت الحكومة قبل ان تتمكن قوى الارهاب من السيطرة على المدينة؟ لماذا ترك الناس من دون عون لمدة طويلة؟
لن نجيب على هذين السؤالين على نحو مباشر، بل سنواصل لمّ الوقائع بعضها مع البعض لرسم صورة للشروط التي بات فيها الارهاب يبسط هيمنته على مدن بعينها ممكناً.
ودعونا نقول درءاً للالتباس اننا لا نظن ان غياب الحكومة المدة التي استطاع فيها الارهاب ان يقضي على ارادة الناس كان مقصوداً، بل انه يتمم غيابها عن مشكلات عديدة تنخر في البلاد. انها لم تمتلك المعلومات الكافية لما حدث في هذه المدينة ويحدث في مدن اخرى، لا تعرف الاعداء الحقيقيين، ولا تميز بينهم وبين اولئك المستسلمين الذين فقدوا اية حيلة، وهي كذلك غارقة بمشكلات نقص المعلومات، وسوء الادارة، والفساد الاداري، واكثر من هذا والأخطر، عدم قدرتها على الاستجابة السياسية في الوقت المناسب.
لا نخشى القول اننا نلوم الحكومة هنا، مع اننا نعرف ان ضعفها هو ترجمة لضعف الحالة العراقية كلها. لكن الى من نتوجه اذا لم نتوجه اليها؟ مع من نناقش قضايا السياسة والحرب والارهاب اذا لم نمر بها، وعبرها، الى القوى السياسية المتمثلة فيها ضمن ما يعرف بالتوافقات والمحاصصات التي جعلت من وجودها ممكناً على الصورة التي هي عليها؟
اذا ما جاءت طروحاتنا تحرج الحكومة، فهي ستحرج آخرين معها ممن حاولوا ويحاولون التنصل من مسؤولياتهم، وحولوا العمل السياسي الى حجج مثيرة للشفقة. لكن ليس من اهدافنا احراج احد هنا حقاً، وبالعكس، نريد ان نفتح الطريق –معها ومعهم- لاعتماد تحليل سياسي واجتماعي يقربنا معاً من تصورات عقلانية بشأن مدن عراقية مماثلة جرى التهديد باكتساحها، وهو أمر نرجو من الحكومة على نحو خاص ان تشاطرنا الاحساس بمخاطره على مستقبل العراق السياسي.
هناك مجموعة من القضايا التي نود ان نطرحها في هذه الافتتاحيات بصراحة، راجين من الحكومة والقوى السياسية الممثلة فيها ان تفتح صدرها لنا.
-يتبع غدا-