TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الدولة المستباحة بالفساد

الدولة المستباحة بالفساد

نشر في: 9 أكتوبر, 2007: 08:26 م

 فخري كريم

شهد العراق الجديد، تفشي الفساد في كل مسامة من جسد الدولة، والمجتمع، وتحول من حالاته الاولية البسيطة التي تتعايش معها المجتمعات، المتطورة منها والمتخلفة،

كل حسب معاييرها وحجم التلاعب والنهب فيها، الى ظاهرة منفلتة في كل الميادين والاتجاهات.

وهذا التحول منحنا الجرأة، ان لا نخجل من الحديث عن الفساد، واستشرائه وتوسع ميادينه وتنوع مظاهره الصارخة، بل الخشية من "نمطيته" وهزاله، وعجزه عن تجاوز سياق مظاهر الفساد المألوف في الدول والمجتمعات الأخرى.

فنحن في العراق الجديد، نريد ان نتميز عن الآخرين حتى بـ "فسادنا"، والا كيف يمكن ان نكون جديرين ببناء "تجربة جديدة"، "ديمقراطية"، "تعددية"، دون المرور على ما خبرته عهود الوحشية والتخلف والقرصنة على مر التاريخ!

لقد تفاخرنا، وربما هذا وحده حق، "في لحظاته الاولى" بدك صرح واحد من اعتى الانظمة الاستبدادية، والاجهاز على جميع ما ورثه وتفنن في استحداثه.

ثم تداعت مفاخرنا الواحدة بعد الاخرى،.. بدءاً بتدشين نهب الدولة والممتلكات العامة،.. ثم اشعال الحرائق فيما تبقى منها وابنيتها...

وهكذا انضم الى اسرة عراقنا الجديد "الحواسميون"!، الذين يتحركون بيننا اليوم كشخصيات مرموقة بعد ان اصبح البعض منهم اصحاب عقارات، وشركات، وحملة اسهم في البنوك والمؤسسات الكبرى، واصحاب وسائل اعلام، ومن يدري، لعل بعضهم قد تسلل الى المراكز العليا في الدولة والاحزاب ومنظمات المجتمع، ومع مرور الايام والاحداث، استشرت ظواهر التعدّي على الناس، بالاختطاف والفدية والسلب وجز الرؤوس، ومع التجرؤ على اشهارها في المواقع الالكترونية والفضائيات، شفينا من هواجس الخجل والخوف!

لقد اصبحت كل اشكال التعديّات، ظواهر تتسلل الى حياتنا اليومية، فاختطفت من مواطنينا كل شيء بما في ذلك، الحارات والارصفة والشوارع، بل وحتى بيوت الاقارب والجيران، التي باتت زواياها مسكونة بالموت المجاني!

لكن بقايا الدولة العتيدة التي شرعت بالتكوّن على يد بريمر ومراوديه، ومن فضلات الدولة المنهارة، تحولت منذ البداية الى مستودع مفتوح، لكل مظاهر الفساد والتعدّي وقهر المواطنين.

لقد تسلل "الحواسميون" وازلامهم وحملة اختامهم، الى جسد الدولة الوليدة التي لم "تُفطم" بعد، والتي لم تتعلم وهي في خطواتها الاولى، التمييز بين الحلال والحرام!

ومن يومها اتخذ الفساد له لبوساً جديداً، وصار له حراس ودهاقنة!

ان قادة ووزراء ومسؤولين كباراً، في شتى مرافق الدولة، تعاقبوا على ادارة البلاد، وغادروها مرفوعي الرؤوس، لا تلاحقهم سوى تهم اختلاس الملايين، وامرار عقود لم يكن يحلم بمثلها، مقاولو "الترابية" التي كانت احدى اكبر صيغ رشاوى النظام السابق لشراء الذمم مع انطلاقة الطفرة الاقتصادية المشؤومة بداية سبعينيات القرن الماضي!

والغريب ان هؤلاء جميعاً ظلّوا قريبين من اضواء السياسة، بعيدين عن المساءلة وملاحقة دوائر النزاهة، سوى خلق الله البسطاء، ممن ساقتهم اقدارهم الى مصائد اللصوص الكبار!

ان الناس الملتاعين بعذاباتهم اليومية وحاجاتهم البسيطة، باتوا يتابعون بحيرة واندهاش، الفضائح التي تلاحق كبار المسؤولين والوزراء وامّعاتهم، التي تؤشر الى السطو على ملايين الدولارات وعلى الاراضي الحكومية والعقارات، ويتهامسون بما يشاع عن التحايل على الانظمة والقوانين التي تمرر بيع كل شيء بابخس الاثمان بل وتسجيلها "هبةً حلالاً" للبعض تحت واجهات شرعية.

ورغم هذا الحجم المتضخم من السرقات والسطو والاستيلاء، المعلن عنها في كل وسائل الاعلام، والموثقة رسمياً، فان احداً من هؤلاء الكبار لم يقع في قبضة العدالة المنتهكة، مع ان كثرة منهم يترددون، رواحاً ومجيئاً، بحماية حكومية احياناً وامريكية في اكثر الاحيان، بين العواصم العربية والمنطقة الخضراء.

وها نحن ننقل فسادنا الى الكونغرس الامريكي، ويصبح الحديث عن حقائقه مدار اتهام متبادل بين "رأس النزاهة" المُقال، ورئيس الحكومة، ولسنا بصدد تفاصيله وحقائقه، مادمنا بلا حول ومِكنة وقوة، ينطبق علينا وعلى خلق الله الآخرين ما قاله الامام علي "لا رأي لمن لا يُطاع"!

بعد كل هذا، يخطىء من يظن اننا نخشى من نقل الجدل حول الفساد الى المحافل الدولية، اذ ان هذا الجدل ما هو بحد ذاته إلا تعبير آخر عن ديمقراطيتنا وانفتاحنا!

ان ما نخشاه في واقع الحال، الانتقاص من عراقنا الجديد، باظهار فسادنا كما لو انه مجرد اعادة انتاج للفساد المتعارف عليه بين الامم والبلدان الاخرى، فما لا بد للآخرين ان يعرفوه، هو اننا مبتكرو أشكال وصيغ للفساد لا عهد للآخرين بها، نتباهى امام الملأ بجودة صناعتها، عندما نصدرها للراغبين حسب الطلب، ووفقاً لوصفات مميزة، مثل كل المظاهر الفاسدة التي تحيط بنا وتكاد تقطع انفاسنا وتخنقنا!

اننا نفخر بالمجاهرة بجاهزيتنا لتصدير ظاهرة الفساد، بكل تلاوينه،...

فساد الذمة اولاً!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram