فخري كريم
إذا كان الشعر هو المفارقة العظمى في اللغة، أية لغة إنسانية، فان وجود الشاعر النادر هو المفارقة والاستثناء الأكثر ندرة في أي عصر وحضارة.
باللغة صنع الإنسان حضاراته.. وبالشعر استطاع الإنسان ان يصنع حضارة لغاته. حيث الشعر نسغ اللغة الحي وهو سر تحولها وتجددها وآلة ابتكارها وخلقها الدائمين. والشعر هو الفنار الروحي الأعلى للأمم وحارس أحلامها ودليل أمانيها.
يقبض الشعراء بقبس النور الأزلي.. واليهم، إلى النادرين منهم تتجه أنظار الشعوب ووجدانها في انكساراتها وانتصاراتها، في ألمها وغضبها، في نشيجها ونشيدها.. حتى ليستحيل الشاعر العظيم إلى رمز للوجدان القومي وسادن للضمير الشعبي في ارفع ما يكون عليه الضمير وما يسمو به الوجدان.
وليس محمود درويش الذي فاجأنا برحيل خاطف وعاصف إلا مثالا للشاعر الفنار والسادن والرمز.
انه نشيد الفلسطينيين في إرادتهم للتحرير.. وهو نشيج ثكالاهم وأراملهم في مخيمات التشرد والشتات.
هو فنار الروح الفلسطينية العصية على الانمحاء، وقبس نور هذه الروح في ليل القهر والعسف والطغيان.
وهو صخر الكلمات حين تتحدى القتلة.. ورهافة الهديل حين ينشد للمقهورين.
استحال إلى رمز فذ للمقاومة في الشعر.. واستحال إلى شعر فذ في المقاومة.
تستطيع الأحداث العظيمة ان تصنع مثل هذا المثال..لكن أنى له ان ينصنع من دون موهبة عظيمة وإرادة أعظم!؟
هكذا كان محمود درويش نسيج وحده ليس في التجربة الفلسطينية، شعرا ومقاومة فحسب، وإنما في عموم الشعر والحياة العربيين المعاصرين، فهو احد ابرز مجددي الشعر العربي، وهو احد اكبر المدافعين عن الحريات والمنافحين ضد الطغيان في عالمنا.
لقد امتزج شعره بحياته.. وبشعره امتزجت تلك الحياة التي مرت بنا مثل برق خاطف.. وعاصف.
اختفى البرق.. ولكن العاصفة تدوم.