TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية :حول قيام الدولة..من دولة الاستبدادإلى استبداد الدولة

الافتتاحية :حول قيام الدولة..من دولة الاستبدادإلى استبداد الدولة

نشر في: 9 مارس, 2011: 07:02 م

فخري كريم

انتفت الحاجة للإشارة إلى عدم اكتمال  تكوين الدولة ، دولتنا العتيدة التي طالما أوهمنا أنفسنا بأنها في طور التكوين " ديمقراطياً"

في مجرى الحراك السياسي الجاري في البلاد، وفي إطار العملية السياسية الديمقراطية.فالدولة التي انتظرنا بفارغ الصبر اكتمال بنيانها ، اكتملت، وليس مهماً ، أنها لم تأت وفقاً لتطلعاتنا المشروعة التي ناضل الشعب لعقود، وعبر تضحيات مضنية، من أجل بلوغها. المهم أن الدولة قامت، وهي تسير بخطى متسارعة لتأكيد حضورها،

 ودعوة من لم ينتبه لأخذ ذلك بنظر الاعتبار، والامتثال لما يستلزمه ذلك، من احترام الهيبة والوجاهة.

   لقد انهارت الدولة القديمة، مع سقوط النظام الاستبدادي المباد في نيسان عام ٢٠٠٣ ، لكن انهيارها الفعلي كان قد بدأ في وقت أبكر من ذلك بكثير. فصعود البعث إلى السلطة عام ١٩٦٨، رافقه بخطوات متدرجة  قضم مفاصل الدولة وإلحاقها بكيانه، وبعد استيلاء صدام حسين على مقاليد السلطة وانفراده بها ، تم إنهاء أية استقلالية "شكلية لها" ، بعد ما تم دمجهما معا" الدولة والحزب" واختزالهما بشخص الدكتاتور الذي أمسى هو الحزب والدولة معاً. ولهذا كان من المتعذر إسقاط النظام من دون إسقاط الدولة نفسها، وهذا ينطبق إلى حد ما على مكونات الدولة بما في ذلك الجيش.

 لقد انتشى الطاغية بمأثرته هذه، إذ لم يعد بإمكان احد أن يتعرض لسلطته دون أن يعرض الدولة العراقية ، والوطن للدمار والخراب، ومن هذا استمد أعوان النظام من العرب القومجية، شعارهم " الدفاع عن الوطن" في مواجهة  الدعوة لإسقاط النظام، وخصوصاً إبان حروبه الداخلية والخارجية . وبسبب هذا الاندماج ، استبشع بعض الوطنيين استهداف الدولة وانهيارها المدوي بالتلازم مع انهيار سلطة الطاغية. لقد أدرك صدام وقد استقامت له الأمور ، أن بإمكانه ترديد مقولة الأباطرة الشهيرة "أنا الدولة والدولة أنا.. ومن بعدي الطوفان"!

كان واضحاً منذ وقت مبكر، أن الأمور سائرة نحو هذا المآل. فقد عبّر صدام أكثر من مرة أمام قوى سياسية، وفي اجتماعاته الحزبية، عن استغرابه مما يقوله البعض عن وجود صراع بين اليمين واليسار في حزب البعث ، " لقد آن لهم أن يعرفوا أنني اليسار واليمين حسبما تقتضيه مصلحة الثورة وقيادتها"! ومعروف انه كان يرمز لنفسه عند الحديث عن " الثورة وقيادتها". ولعل ما يجري اليوم في ليبيا الطاغية القذافي ما هو إلا نموذج آخر لما كان عليه نظام صدام ودولته الاستبدادية. فالقذافي لا يمكن أن يتصور الدولة بكل ما فيها إلا ملكا خالصاً له ولعائلته ، ولم  يتردد وهو في ذروة جنونه أن يشبه الشعب الليبي بالفئران، وانه لفرط إحساسه بملكية الدولة، بكل ما فيها من ثروات وبشر، طافت مشاعره بكل ما تفيض به مشاعر الطغاة من أدران ورزايا، واقسم أن لا يترك البلاد "للجرذان" وفي تربتها جثامين أجداده وأبيه وأمه! هذه هي الدولة بمفهوم القذافي، كما هي كانت لدى  صدام، وكما كل الطغاة المستبدين.

لقد أتاح السقوط المدوي للدولة الاستبدادية مع سقوط نظام صدام حسين، فرصة تاريخية لبناء دولة ديمقراطية مدنية متحضرة. لكن الحاكم المدني للاحتلال الأميركي سرعان ما بدد هذه الفرصة التي يندر أن تتاح لأمة ، باعتماده خرائب النظام السابق في إعادة بناء النظام الجديد. فقد استعان بكل من أبدى الاستعداد للتماهي مع توجهاته، من كوادر الدولة القديمة، في التشكيلات الجديدة للشرطة والمخابرات والقوات المسلحة التي ظلت حتى الآن تثير شكوك وهواجس من تناوبوا على حكم البلاد..ولم ينته الأمر عند هذا الحد الملتبس، بل  كرست المحاصصة الطائفية المشوهة ما كان قد وضع لبناته بول بريمر، وحولتها إلى ظاهرة تسود بنيان الدولة الجديدة بكل أركانها وميادينها، حتى يبدو من كرسوا حياتهم في مقارعة النظام المباد أمام مشهد الدولة الجديدة وأجهزتها ومؤسساتها، غرباء وربما منبوذين مهمشين، لا فرق في ذلك بين أبناء الطوائف جميعاً من عابري الطوائف وأحزابها.

وفي حمّى التنافس بين حملة أسهم الطوائف وصكوك غفرانها، نفد صبر عابري الطوائف ، ممن سحقتهم الفاقة وهدهم البؤس والضيم، ونال منهم عوزهم لأبسط متطلبات الحياة الآدمية، فلم تعد تحمي البعض منهم بيوت الصفيح المتداعية، ولم يبق لآخرين شروى نقير يسدون به رمق أطفالهم وحرماتهم ، ولم تعد الأكثرية منهم تعبأ بانعدام الكهرباء والماء الصالح للشرب بعد أن أصبح غاز المصابيح مرتجىً مؤجلا، وبعد أن أصبحت البطالة تنخر في عوائلهم فتحول أفرادها إلى أشباح يذهلهم الجوع . لكن ذلك بالنسبة لمن تربعوا على كراسي الحكم بأصواتهم في المركز والمحافظات،لم يكن كافياً، فاستباحوا حرياتهم وحرماتهم تحت مختلف الواجهات، دون أن يوفروا مقدساتهم.

وأمام عجزهم وفقدان صبرهم على المكاره ، لم يجدوا وسيلة غير الخروج إلى الشوارع والساحات ليعرضوا ما آلت إليه أحوالهم، لعل أصواتهم تصل إلى أولي الأمر، إذ ربما لم يصلهم شيء من مظالمهم، وهم منشغلون بتأمين حوائجهم. لم يكن بينهم من يستر بعثياً ، ولم يكن بينهم، من زكى بعثياً تسنم منصباً مرموقاً في الحكومة، وليس بين أكثريتهم من له في الحكومة من معين. وربما لا يعرف الكثير منهم عن السياسة سوى، أن رئيس حكومتهم من موالي آل البيت. لقد وجد هؤلاء في نداءات الدعوة لعرض أحوالهم في الشوارع والساحات، متنفساً لمدى الجور الذي كلل هاماتهم، فاستجابوا للنداءات، وقد أوهمهم الدعاة أن الدستور يكفل حقهم في شوارع مدنهم وساحاتها!

وسرعان ما اكتشفت الجموع المهضومة حقوقها من جميع الطوائف، من عابري الطوائف، أن شباب الفيسبوك هم أيضا قد خدعوهم بتشويه هوية حكومتهم، وخدعوهم ثانية بكفالة الدستور لحقهم في عرض أحوالهم في شوارع وساحات مدنهم، حين انهالت الهراوات وخراطيم المياه، ثم الرصاص الحي عليهم، واستباحت دماء زكية لأقرانهم من الفقراء والجياع الذين كانوا يمنون النفس بان السادة قد يطعمونهم ويكرمون وفادتهم، ويبادر البعض منهم في توزيع البطاقة التموينية المسروقة عليهم بمناسبة عرض أحوالهم!

لكن ما لم يعرفوه أيضا أننا اكتشفنا لأول مرة بوضوح كافٍ، أن الدولة التي طالما تحدثنا بثقة أنها ما تزال في طور التكوين، قد اكتمل تكوينها!. ولكن أي تكون.. لقد بدأت من حيث تنتهي دولة الاستبداد. إن دولة في طور التكوين الديمقراطي لا تبدأ كأولوية لها، بتشكيل فرقٍ لمكافحة الشغب، خصوصاً وأنها ما تزال تواجه ليل نهار تحديات القاعدة وقوى التكفير من زمر الإرهابيين.. وان دولة ناقصة التكوين لا تجّيش ارتالاً مدججة بالسلاح الناري الحي ، لمواجهة متظاهرين عزل، جلّهم من شباب الأمة ، وكلهم من قاعدة النظام الديمقراطي والمدافعين ببسالة عنه ، ولا تفرض منعاً للتجول، ولا تقطع الطرق العامة بالجدران الكونكريتية، ولا تستنفر الإعلام العام للتقليل من شأن الرأي العام، وتسخر من الشباب، ولا تسوق إعلاميين مرتزقة من حواريي الطاغية للحط من كرامة المتظاهرين والتلاعب بالحقائق!

لكن مشهد اكتمال دولتنا، كان سيظل ناقصاً، لولا مشاهد الجند وقادتهم، وهم يلاحقون المتظاهرين ويلقون القبض عليهم ويركلونهم بالبساطيل العسكرية بتباه يشبه تباهي الجلاد وهو يستمتع بتعذيب ضحاياه، لقد خبرنا هذا المشهد مرات ومرات، وتعرفنا على ملامح جلادينا، أنهم هم أنفسهم من تدربوا على أيدي جلاوزة البعث ، إذ لا يمكن لوطني مهما ضعفت وطنيته أن يمارس أي طقس للتعذيب. لكن المشهد يظل ناقصاً قبل التعرف على مشهد قبو بعثي بامتياز!

 لقد قادت همرات القوات المؤتمرة بأمر القائد العام لدولتنا أربعة صحفيين كرسوا نشاطهم منذ سقوط الطاغية، دفاعاً عن النظام الجديد، وغامر بعضهم أو كلهم بعوائلهم التي طالها التشريد، بسبب انحيازهم لما اعتقدوه انه دولتهم الجديدة، اقتيد هؤلاء الشباب من العاملين في السلطة الرابعة المزعومة من وجهة نظر بعض حكامنا معصوبي الأعين لا يتوقف ضربهم بكل ما تحت أيدي جلاوزتهم من أدوات، إلى أقبية هي مقرات لبعض قوات القائد العام للقوات المسلحة، وهناك فعلوا بهم أو كادوا كما كان يفعل أوباش البعث، لم يكتفوا باستخدام التعذيب بالكهرباء(يا للسخرية يبدو أنهم يحرمون الشعب من الكهرباء ليستمتعوا بتعذيب أبنائنا بها)! بل تجرأوا على كي بعضهم بالكهرباء في مناطق  حساسة من أجسامهم مستمتعين بإخبار ضحاياهم بأنهم فقدوا فرصة الإنجاب!، تماماً كما كان يفعل جلاوزة البعث! وإلا فمن أين استورد هؤلاء إن لم يكونوا من بين من ضيعنا اثرهم في تنافس ملوك الطوائف.

اللهم اشهد أن الدولة التي قامت على أنقاض نظام الاستبداد، قد اكتمل بنيانها، ولكن يا لزهد شعبنا المغلوب على أمره بالحاجة لمثل هذه الدولة.

إنني إذ اقر بقيام هذه الدولة، وقد فنيت عمري انتظاراً لدولة بديلة عن دولة الاستبداد، أعلن براءتي من هذه الدولة المضيعة، حتى تتخذ كل التدابير القانونية والسياسية الكفيلة بمعاقبة الجناة ومن يقف وراءهم، ويعاد النظر بالأسس التي تسمح بمثل هذه الممارسات المخلة بحقوق الأنسان وكرامته، وتدفع الدولة إلى منحدر الاستبداد، وحتى يتحقق ذلك سأواصل النضال مع كل التواقين في العراق الجديد لإعادة النظر في مشروع دولتهم التي دفعت إلى هذه المتاهة.. وأدعو كل مواطن حر شريف للعمل من اجل تقويمها ، بكل الوسائل الديمقراطية المتاحة، بمواصلة التظاهر وممارسة كل أشكال الاحتجاج السلمي دون توقف حتى يقدم للقضاء كل المسؤولين عما جرى من انتهاك لحقوق الإنسان، وتشويه للقيم الإنسانية، وأطالب المرجعيات الدينية، باعتبار هذه القضية، مهمتهم الدينية، ما دامت تتعلق بالشروع بهتك أعراض مواطنين أبرياء من أبناء شعبنا بالتوقف عند هذه الظاهرة الخطيرة التي لا تتنافى مع الدستور وشرعة حقوق الإنسان فحسب، بل ومع قيم الإسلام الحنيف وقواعد الشرع الذي يفترض أن دولتنا تسترشد بها.أما مجلس النواب فلا اسأل غير الله أن ينتقم ممن له ضلع في هذا التكوين المشوه، الدولة المفتوحة على الاستبداد، إن لم نستبق تمادي من يدفعها في هذا الاتجاه.

إن فرصتنا في تدارك ضياع مشروعنا لبناء دولتنا الديمقراطية المدنية المنزهة من شرور ومضامين دولة الاستبداد، يتوقف على تصميمنا الراسخ بإدانة ما جرى ومعاقبة من قاموا بها ومن أوعز لهم وقادتهم، ومدربيهم.

إن تطهير الأجهزة المخابراتية، والقوات المسلحة من أرباب السوابق في أجهزة النظام المباد ومن المشبعين بثقافة الاستبداد، ينبغي أن تظل شعاراً مطلبياً ثابتاً

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram