فخري كريم
توهم البعض أن التظاهرات التي اتخذت طابع حركة احتجاجية جماهيرية غطت كل المحافظات في العراق ،
هي امتداد وانعكاس للغضب الذي تفجر في تونس ثم تحول الى تسونامي عربية أطاح برؤوسٍ وأنظمة استبداديةٍ ، وما زال يكتسح ما تبقى منها دون أن تستطيع الحواجز "القومية" أو " الوطنية" أن تحميها أو تُهَدِّأ من عنفوانها.
ولم ينتبه هذا البعض أن ما جرى في العراق في نيسان عام ٢٠٠٣
هو الذي كان النذير بالزلزال الآتي على العالم العربي دون ريب، رغم الملابسات التي ارتبطت بالتغيير، وتحققه بوسيلة لم ترضِ العراقيين وخدشت حساسيتهم الوطنية ، مع أنها لم تتحقق إلا بفضل تضحياتهم ونضالاتهم وثقتهم ، وهو ما مكّنها بالاستناد إلى تضافر جهودهم من استرجاع سيادة العراق واستقلاله وإعادة بنائه ديمقراطياً . وقد أنجز الكثير على هذا الصعيد ، مع ما شاب عملية إعادة بناء الدولة والعملية السياسية من تشوهات وسياقات تتناقض مع النظام الديمقراطي وتنتقص من الإرادة الوطنية العراقية . ويكتشف العراقيون اليوم بعد ما جرى من تطور أطاح بأنظمة جائرة ، أن العديد من هذه البلدان كانت وراء الإرهاب والتدمير الذي لحق بالبلاد ولعب دوراً تخريبياً معطلاً ومعرقلاً لتطوره الديمقراطي. ومما أفتُضح من مستور هذه الأنظمة تغذيتها للطائفية وإثارة نزعاتها.
لقد كان متوقعاً أن تنفجر الأوضاع في الدول العربية المستبدة ، ويتحول السخط الشعبي الكامن في ضمير الشعوب العربية إلى ثورات عاتية، بعد أن تراكمت المظالم والتعديات والفساد والاستهتار بأبسط متطلبات الحياة الإنسانية وأصبحت المزابل وفضلاتها مصدراً لقوت شرائح متسعة من المواطنين وبيوت الصفيح والمقابر مأوىً لهم . لكن أحدا لم يكن يتصور أن الغضب سيتحول إلى ثورة لن تتوقف إلى أن يسقط الطغاة ، مهما كانت التضحيات ، وانها ستتخذ هذا الطابع العاصف وتزحف من بلد مستبد إلى بلدان عريقة الاستبداد ، لم يكن حكامها يتوقعون بان التغيير سيصل إلى عقر دارهم ويستهدف سلطتهم، فكلهم تقريباً كانوا يتوسّدون " أيقونتهم" القومية ويراهنون على أن ما بنوه من أجهزة مخابراتية وأمنية في ظل "قوانين الطوارئ" والأحكام العرفية والتدابير القمعية الملازمة لها تشكل مجتمعة " سياج أمان" تصد عنهم رياح التغيير وأي تحرك مضاد. وتهاوت أنظمة
وتوالى سقوط طغاة وتزعزعت أركان دول عريقة واهتزت عروش، والعاصفة تشتد وتتقدم.
إن تسونامي " الصحوة السياسية " التي انطلقت من مدينة البو عزيزي في تونس ، حددت مساراً واضحاً لها نحو الأنظمة الدكتاتورية المستبدة ، ولم تخطئ بوصلتها أحدا حتى الان ويبدو انها تتواصل دون انقطاع حتى تتحقق أهدافها التي قد لا تنتهي قبل اجتثاثها جميعاً، وخلق بيئةٍ ديمقراطية في العالم العربي تتماشى مع روح العصر ومقتضياته الإنسانية.
وتقوم هذه البيئة الإنسانية الديمقراطية، على مبادئ العدالة والمساواة وحقوق الإنسان والحريات والمواطنة المتكافلة الحرة دون أي قهر او تقييد ، وهي بيئة لا يمكن أن تتحقق، إلا في دولة المؤسسات والقانون والحريات، الدولة المدنية التي توفر كل شروط التطور وتكافؤ الفرص لمواطنيها دون اي شكل من أشكال التمييز.
ان العمل الوطني لتأمين شروط خلق هذه البيئة وتوطيد أسسها في الحياة السياسية وتعميق الوعي بضرورتها، هو ما يجمع الحركة الشعبية الاحتجاجية العراقية مع مظاهر الغضب الذي اجتاح العالم العربي وما زال يتصاعد. كما يجمع بينهما طابع الحراك الجماهيري وأسلوب التعبير عنه بالتظاهرات والتجمعات والاعتصامات ، بالإضافة للقوى الناهضة من قاع المجتمع وأطرافه الرخوة الصامتة، التي أيقظها الإحساس بدوام الجور والمظالم والعوز والتعديات.
ويبقى الاختلاف بين الحركة الاحتجاجية العراقية والغضب العربي جوهرياً، من حيث طبيعة النظام والظروف والاهداف، فهي تجري في ظل اوضاع شبه ديمقراطية لم تكتمل اسسها بعد، ولم تتعافى الحياة السياسية فيها، والدولة الحاضنة لها ما تزال في طور التشكل والتكوين، تنخرها التناقضات وتتجاذبها المصالح والاهواء وتشوهها المحاصصات والطائفية السياسية والفساد وسوء النوايا ومظاهر جنينية بالنزوع نحو الانفراد المفضي الى صيغ من التعالي والاستبداد.
وهذه المظاهر السلبية في الوضع العراقي، تشكل عوامل اثارة نقمة العراقيين وغضبهم.
وهذا الغضب وما يتمخض عنه من تعبيرات في التظاهر والاعتصام والاحتجاج، يظل في اطار المطالبة بالاصلاح والتغيير لتصويب المسار الديمقراطي وتكريس اسسه وتصفية كل ما علق به من مظاهر الفساد . ان عدم وعي الحكومة والمشاركين فيها بجوهر هذه الحركة ومكوناتها واهدافها ومبادءتها بالتشكيك والتجريح، جعلها في حالة اغتراب عنها ومواجهة لها، مما قد يباعد بينهما ويشدد من مظاهر التوتر والتصعيد في اوساط المحتجين، اذا لم يجري الاستجابة لمطالبهم الملحة الممكنة التحقيق، واتخاذ الاجراءات والتدابير المقنعة على جديتها في السعي لتنفيذ وعودها المؤجلة.
ان مظاهر التلكؤ والمماطلة، اخذت تبرز في الاوساط الحكومية ، بدلا من بشائر الاستجابة الجدية للمطالب الملحة، تعكسها تصريحات متضاربة حول استحالة انجاز اي خطوة خلال الموعد الذي قطعه رئيس الوزراء، وكذلك تلميح مرشح بارز لموقع ابرز، الى ان الوتيرة الجارية من العمل في الوزارات والمؤسسات المعنية بتوفير الخدمات هي سقف ما يمكن تقديمه حتى اذا "خرج الشعب كله الى الشارع"!، مقرناً تلميحه بضعف الحكومة الناقصة والخلافات التي تعصف بها والمناورات والتربصات التي تديرها اطراف مشاركة في الائتلاف الوزاري لافشالها تمهيداً لاسقاطها. وليس بعيداً عن هذه التلميحات مراهنة البعض على ما يبدو في نظره، وهناً اصاب قوى الاحتجاج وشل قادته ومحركيه يعكسه تراجع اعداد المشاركين في التظاهرات وانحسار تأثيرهم، متغافلين عن التدابير القمعية وحواجز المنع والعرقلة للوصول الى ساحة التحرير ومواقع التظاهر الاخرى. ومتناسين ان ما يميز الحركة الاحتجاجية العراقية عن العربية، هو طابعها التحذيري المتقطع، الذي يستهدف عرض مطالبها والتأكيد عليها بوسيلة الاحتجاج العلني المكشوف، لاظهار عدالتها ونفاد صبرها من موقف الحكومة ازاءها، متناسية ايضاً ان هذا ما يميز الحركات المطلبية، التي لا تتطلب زخماً متصاعداً، واستمراراً في التصعيد والتعبئة حتى بلوغ الهدف المنشود، كما انها تنطلق في حركتها من القاسم المشترك الموضوعي الذي يجمعها مع الحكومة باعتبارهما شريكين، وان غير متكافئين في العملية السياسية الديمقراطية ، يجري التوجه اليها بمطالبها من موقع الحليف الموضوعي، وليس من موقع الضد والنقيض.
وما يساعد على ابعاد الوهم بين الاوساط الحكومية عما يبدو لها تراجعاً ووهناً في الحركة الاحتجاجية، تنظيم نشاطاتٍ جماهيرية اخرى، من شأنها مواصلة الضغط في الاتجاهات المختلفة لكسب اوساط اوسع الى جانب مطالبها العادلة. ومن بين النشاطات التعبوية المؤثرة، مواصلة الكتابة في المواقع الالكترونية والتواصل الاجتماعي، بالاضافة الى الصحف ووسائل الاعلام المحلية، واقامة الندوات واللقاءات في مختلف المنتديات الاجتماعية والثقافية، ومقرات النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني. ومن الاساليب الملفتة والمؤثرة ايضاً تنظيم وفود تلتقي بالاحزاب والوزارات والمحافظات وغيرها من القيادات الحكومية والاهلية ذات العلاقة بقضاياها لوضعها في صورة واقعها ومعاناتها والعمل على كسب تعاطفها وتأييدها والانضمام الى تحركها.
ان جيل التواصل الاجتماعي مطالب بالمبادرة للبحث المستمر عن وسائل مبتكرة لعرض القضايا التي تشكل قواسم مشتركة مع كل الاوساط الايجابية والمتطلعة لتحقيق تقدمٍ على صعيد الحريات وفي سائر ميادين التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي يستجيب للمطالب الشعبية، ويوفر لها الحياة الكريمة. ولا بد لكل الذين ساهموا في النهوض الجماهيري الديمقراطي ولكل مواطن يسعى لتحقيق اماله وتطلعاته، ان يدرك ان التقاعس والوهن وضعف اليقظة والمتابعة، اجهاض اكيد لتلك التطلعات والاماني والطموحات الوطنية والمطالب الانسانية المشروعة والعادلة. وعلى الحكومة ان تستدرك وتعيد الاعتبار لقوى المجتمع الضاغطة وتتجاوب معها، بالعمل الجاد لتلبية ما خرجت من اجله الى الشوارع والساحات، وان تأخذ بالاعتبار الحفاظ على المضامين الايجابية للحركة وقواها، دون ان تستهين بما تنطوي عليه من قدرة على التغيير في اطار النظام الديمقراطي