خري كريم
(1)
كانت خيوط فجرٍ جنوبي تنساب معه نسيمات ربيعية ، ما كانت لتتأخر في تلك السنوات في ذلك الوقت من آذار عام ١٩٣٤
كما هي عليه حالنا اليوم، إذ تتقاطع الفصول وتتبادل أزمنتها ، حتى أن الناس اعتادوا من سنة إلى أخرى نسيان فصل من الفصول وكأنه اختفى تحت جناح فصل قبله أو بعده ،
لكثرة التغيرات التي جرت على الفصول كلها وأضاعت الفروق بينها ، حتى تمر سنوات فلا يبقى من السنة للناس غير فصلين مترهلين بالجفاف لا يوقظ الإحساس بهما الرغبة في النعاس أو اليقظة ولا تنفع معهما ، صلوات الاستسقاء ودعوات العطاشى والمعذبين من القيظ والزمهرير.
في ذلك الفجر الآذاري ..وبين جدران بيت بان عليه العوز والكرامة ، تردد همس أثار فضول أهل البيت ، الذين لم يألفوا غير الكلام المسموع الذي يوقظ الجيران، إذ طالما تبادل رب البيت مع جيرانه أطراف الحديث دون أن يغادر حجرته . يومها ظل الهمس مكتوماً، اختفت أسراره بين طيّات الجدران ، لكن الرجل الذي ظل وحده يهمس ، لم يتسلل من المكان إلا ومعه وعدٌ صامتٌ متطلعٌ مبهورٌ ، كأن همسه كان نذيراً بنهاية عالمٍ وبشيراً بانبعاثٍ مفتوحٍ على عالم جديد . وظل الهمس يتردد في بيوت تكاثرت مع مرور الأيام ، وظلت أسرارها تتناسل في طيّات الجدران المتداعية .، الشامخة بكرامتها. ، وتغير المتسلل ولم يعد وحيداً ، بل رهطاً من رجال يلتم على بعضه مع خيوط الفجر فيتوزع وينتشر في البيوت والحقول والأحياء والقرى البعيدة ، ويعاود تسلله بعد مغيب الشمس لكنه صار واثق الخطوات لا يتعثر كما كان في مشاويره الأولى .صار التسلل انطلاقاً إلى المدن البعيدة ،فازدحمت بهم ، وفاضت أعدادهم لتجوب في الأرياف والأزقة المتربة، وفي المرافئ وبين الحشود المهمومة. ومن الهمس،إلى الجهر تجمعت حروف وكلمات، أخذ الناس يتناقلونها، فتتشكل منهم اطرٌ وجماعات وانبلجت من الأسرار التي اختفت في البدايات الأولى بين طيات جدران البيوت رجعا يدهش، المتطلعين منذ ألف عام ويزيد، إلى وعد مرتجى ينتقل من عام إلى عام ، ومن عصر إلى عصر، ويبقى الوعد ليتحول إلى حلم مؤجل .
يومها اختلط النذير بالبشير ، وظل الوعد يدفع إلى وعد جديد دون أن ينبعث ، أو يترك اليأس يتسلل إلى النفوس أو ينال من الحلم ، فينطفئ حيناً ويتوهج أحيانا ، وكثر التداخل والاختلاط بين الفصول وامتزج الحلم بالأمل ، يهدهدهما الحنين إلى المرتجى !
في تلك السنوات الحبلى تردد مع الهمس اسم ظل يكبر ، قيل عنه ، انه يوسف ، واعتقد الناس أنه قد يكون ولياً بُعث لينقل رسالة ، الم يتردد انه كان يمرر يديه على رؤوس الفقراء ويعدهم كما المسيح والأولياء بالخلاص من العذابات، انه يريد أن يبني لهم جنة على الأرض.
(٢)
في ذلك الزمن ، قبل مئة عام وعدة عقود كان أقنان روسيا قد تحرروا، ولم تكن محض صدفة أن يفك تولستوي الكبير اسر عبيده ، ويتخلى طواعية عن ضياعه وإقطاعياته الشاسعة ، واندفع ملايين الناس يحررون أنفسهم، وأخذت نداءاتهم من روسيا تخترق الحدود وتجوب أرجاء أوربا ، ثم لتتحول إلى شبح يقض مضاجع الأسياد في كل القارات .
يومها ترددت الأصداء الآتية من تلك الآفاق البعيدة لتحط في ربوع الرافدين ، وتنتقل في الأصقاع وتتلون بألوانها، وتتلقح في موسم مسحور مبارك ، يشي بأعوام مطواعة مفتوحة على الخير.
كانت الحرب العالمية الأولى قد طوت صفحاتها الكارثية مخلفة دمارا لم تشهد البشرية مثيلا له قبل طلوع عصر الرأسمالية، وقسمت العالم إلى شطرٍ يخيم عليه الخراب والإفلاس والانهيار المعنوي فيزداد الفقراء عوزاً ومجاعة وبؤساً ،وشطر يعد بالحرية والانعتاق من عبوديات العالم القديم ، وانفتح فيه باب على المستقبل ينير درب المعذبين ويعدهم بالجنة على الأرض ، لتقام على أنقاض العالم القديم دولة للعمال والفلاحين والمعدمين .
(٣)
في بغداد التقطت جماعة الأهالي ، والعديد من الكتّاب وزمر متطلعة من المثقفين ، صدى التغيير الآتي من الشرق ، وبواكير الانبثاق الآتي من الجنوب ، وإرهاصات الفكر الذي اخذ يتبلور فيصبح عناقيد وعد وتمردٍ على المألوف ، ينتظم في عصبة جديدة رايتها العدل والمساواة والحرية والإخاء بين المحرومين ، وأساسها ، قيم ومبادئ وأفكار ، لا عهد للبشرية بها بما حملته من منارات الأمل بنهاية عصور استغلال الإنسان لأخيه الإنسان .
في سنة من تلك السنوات ولد شمران الياسري في إقطاع من الفرات ، ليبدأ مثل كل أبناء ذاك الزمان بتعلم وحفظ أجزاء القرآن ويختمها ليفك من خلالها أسرار القراءة ورموز الخط في الكتاتيب الملائية ، ثم يتعلم في مدرسة ابتدائية ، ليستزيد بعد ذاك في مدرسة الحياة ، فتعينه القراءة والكتابة على التفرد بين أقرانه في القدرة على سرد حكايات لم يسبق لأحدهم الاستماع لمثلها ، أبطالها من فلاحي قراهم وجوارها من الإقطاعيات الممتدة على مرمى البصر . كان شمران، وهو يشب ، شديد الفخر وهو يعلن أن هؤلاء الفلاحين لا غيرهم هم من ألهموه حكاياته وما تنطوي عليها من روح التمرد و الدعابة الساخرة المريرة ، ومنهم استل لغته المحكية ، بمفرداتها وتراكيبها البسيطة ولكن الغنية والعميقة.
كانت حماسته تزداد وهو يرى علامات الاستغراب والإعجاب على وجوه أقرانه وفلاحي عشيرته وقريته، فأخذ يثري لغته التي أدرك قوة نفاذها وتأثيرها منذ خطواته الأولى تلك ، ثم يزيد عليها ويطعّمها بما تعلم من أساطير وأمثال ، ويقولبها بمفردات الفلاحين ومقاسات رموزه التي ابتكرها من وحي بطولاتهم وتضحياتهم . وكلما ازداد قرباً من نماذجهم ، استثيرت عاطفته الإنسانية ، وتملكه الغضب والسخط على المظالم التي يلاقونها وتتوغل في أعماق روحه الأحزان والرفض لما يراه ويعيش إلى جواره من جور ، فيزداد تعاطفاً معهم والتصاقاً بهم ، لكنه ظل عاجزاً عن إبعاد شجونها عن حياتهم ، ولم يكتشف معنى مغايراً لما هي عليه أحوالهم أو لما يمكن أن تكون عليه خلافاً لذلك ، فالأرض كانت دائماً وقبل أن يولد آباء الفلاحين وأجدادهم لمالكيها الإقطاعيين الذين توارثوها أبا عن جد ، وليس للفلاحين غير نصيب من غلتها .
حدث ذلك لشمران قبل أن تقوده الصدفة أو القدر كما كان يعتقد ، إلى التقاط كلام مهموس ، كان يتناقله الفلاحون برطانتهم غير المفهومة عن غريب حل ضيفاً على أُجراء مياومين يقال انه يلقنهم أسراراً خطيرة ، ويعلمهم فك الحروف ويقرأ عليهم شيئاً من كتاب يحمله في جيبه أينما ذهب ، وقد سمع انه لا يستقر في مكان بل يجول في القرى ، وأينما حل يستريح تحت ظلال شجرة ويتجمع حوله الفلاحون والأجراء ، فيستمعون إليه ، ويغلظون عليه القسم بالعباس والحسين أن يزيد في الشرح والتفسير . لقد تملكه القلق يوم ذاك مما نقل إليه من كلام للغريب عن الفلاح أخي الفلاح ......وكلام مسحور عن الإقطاع ! وشيء عن السراكيل لم يفهم أبعاده .
تذكر يوم ذاك انه لم يكن قد تحرر بعد من همه الدفين الذي ظل يطويه في قلبه ووجدانه ، وينتقل معه أينما حل في دروب الحياة ، ولم يغفر لنفسه عدم قدرتها على معرفة السبب لذلك الهم وانعكاساته العميقة في وجدانه حتى بعد أن التقى ضيف الفلاحين الأجراء، وكان يعزي النفس كلما تلبسته الذكرى، أن الهم ذاك لو لم يبق دفيناً لما استطاع أن يمنحها ضميرا يهز المشاعر بما يرويه من حكايات الفقراء من الفلاحين والأجراء المياومين الذين خلفوا في وجدانه وضميره ذلك الهم الدفين.
لم يتوقف الياسري شمران عن حفظ كل ما يطرق أذنيه من حكايات الفلاحين وأغنياتهم ومأثوراتهم، ويلتقط الحكمة من سيرهم ومعاناتهم ، ويتوحد معهم كلما المّت المصائب بهم وكرّبهم الظلم والاستغلال، ولكنه رغم ذلك ظل أسير شكوكه وتساؤلاته ، مهموماً بها لا يستطيع فك مغاليقها .
(٤)
في ذاك الزمن ، ولِدَ محمد الخضري منحدراً من عائلة فقيرة مكتفية بذاتها ، واكتمل عوده وشب في مدينة تمكنت من التعرف على ملامح ما تكوّن في بغداد من فكرٍ وتنظيرٍ تجمع حول نواته مثقفون ومعلمون وأبناء ذوات حفزهم ذلك الفكر على تجاوز محيطهم الاجتماعي ، من خلال المثل الذي انتشر في كل أصقاع العالم ، وهلّ عليهم من الشرق البعيد ومن الغرب ، ملموماً في كتبٍ ومجلات ومنابر مطبوعة تحكي عن معجزة الأيام العشرة التي هزت العالم من روسيا ، فقلبته رأساً على عقب ، وسرعان ما أخذت الناس في المدن تتناقل معجزاته وغرائبه فتثير الحماسة وتحرك الهمم .ولم يكتف الرواد من رجال الفكر والقلم في بغداد بترجمة ما وصل إليهم من كتابات تبشر بالعالم الجديد، بل تصاعدت الصيحات على ضرورة الانتقال من الفكر إلى العمل ..وبعد سنوات من تلك الدعوات، كان الأمل قد تحول إلى عمل في مدينة الناصرية ، ومثل النور سرعان ما انتشر ليتسلل من مدينة إلى أخرى، ومن بيت إلى آخر، فيتعمد ويتكاثر في ميناء البصرة وفي مواقع السكك الحديد وبين عمال وشغيلة حقول النفط وفي معامل النسيج والسكاير .
شاء حظ الخضري أن يصبح معلماً فيتجول ومعه مصباح ديوجين ليُنوّر دروب الفلاحين وأكواخهم ، يتسلل إلى حقولهم خلسة ً ويجتمع معهم تحت ظلال شجرةٍ ويفك لهم طلاسم ظلت مجهولة عليهم . وما أن يحل في مكان حتى يثير الدهشة في نفوس من يحيطون به وتأخذهم الحماسة مما يسمعونه عن العالم الجديد الذي هلَّ في الشرق البعيد وحمل بشائر عن عدل يسود وظلم يأفل .
كلمات محمد الخضري التي أتقن صياغتها بلغة الفلاحين المعدمين كانت مدلولاتها ومضامينها ، طلاسم مجهولة عليهم رغم حرصه الشديد على إيرادها بأبسط التراكيب وأوضح المعاني .
في أول عهده بالتجوال في الريف ، تذكر انه حرص على أن يترك في ضمير كل من يجتمع بهم تحت ظلال الأشجار " أن الفلاح اخو الفلاح وعدوهما الإقطاع" ..وما أن شعر بعد حين أن رسالته قد تركت أثرها حتى أعقبها بـ" الأرض لمن يفلحها".. ولا يذكر بعد ذلك أي قيم تدفقت وحملت رسائله وكلماته ليزداد التجمع حوله حتى ضاق بهم المكان وامتد ، فلم تعد ظلال الأشجار تتسع للقاءاته بهم ، ولم يعد قادراً على أن يحتويهم وحده، فانضم إليه كثيرون.. ولم يعرف كم صار عددهم .
محمد الخضري أصبح مع خطواته الأولى مبشراً يجيد لغة الفلاحين ويتمثل عاداتهم وتقاليدهم كما لو كان واحداً منهم ، عاش في كنفهم منذ ولادته ، تعلم كيف يتعرف على خبايا نفوسهم فيتصفحها ويستنبت منها مكامن الألم والشعور بالضيم فيحول أنينها وآهاتها إلى لحن للنهوض والتحدي، ويحفر في وجدانهم معنى الجسارة والإقدام، ويدلهم على زوايا روحهم المعذبة المسحوقة التي تنمو في مساماتها معان جديدة تحفز على الحياة . ومن تلك الزوايا كان هو ينحت مفرداته الجديدة لتشد من عزائمهم وتمهد لإرادتهم العزيمة على انتظار لحظة النهوض والمواجهة.
(٥)
لا أتذكر إن كان الخضري هو من التقى شمران الياسري، أم أن معلماً آخر ، حالفه الحظ بذاك اللقاء، وشمران لما يزل حتى ذاك الأوان قد ظل في الريف ينتظر فرصته للانتقال إلى بغداد . ليس ثمة أهمية للأمر باستثناء ما كان يمكن أن ينطوي عليه لقاء احدهما بالآخر في ذلك الزمن المضيء من رمزية ودلالة على مصيريهما وعلى ما أنجزاه وما قام به كل واحدٍ منهما من ادوار في الحياة كما كانا يخططان ويتطلعان وكيف انتهت حياة كل واحد منهما بفجيعة وانكسار.
بعد سنوات تغيرت الدنيا من حولنا ، وتغير كل منا على قدر عزيمته ووعيه وإدراكه لما كان يدور من حوله ، لكن ما تغير أطاح بكل شيء ولم يترك فرصة لالتقاط الأنفاس للتعرف على الجديد، وتمثل قيمه وخلق ما يتطلبه من أدوات وشروط . كان كل شيء في عجلة من أمره ، لا يلتفت يميناً أو شمالاً ليرى وليستكشف الأبعاد الأخرى لهذا الجديد .ويبحث له عن افتراضاتٍ تتناسب معه وتستجيب لدواعيه، وتستعيد التوازن فيه.
كان الانقلاب العسكري قد نجح صبيحة الرابع عشر من تموز عام ١٩٥٨ وشاءت الجماهير، وقد أصبحت سيد الموقف، أن لا تقبل به انقلاباً ، فحولته إلى ثورة ، وبدأت من لحظتها تأكل نفسها انتقاماً من أبنائها الذين لم يكتفوا بما كانت عليه فأصروا على أن يحولوها إلى ثورة.!
كانت مدن العراق بكل ما ينبض في ميادينها وساحاتها وفي أزقتها وشوارعها تريد الانقلاب ثورة.. إن طموحاتها كانت اكبر من انقلاب .وكلما اتسعت المطالبة وترامى المد ، تغير الناس وتدافعوا زرافات خلف زرافات يتسابقون لإرضاع الثورة وحمايتها من النفاس والحسد . وفي حمّى التدافع انفلتت الجموع واختلط بعضها ببعض، وتواصل السيل الجارف حتى النهايات وانعدام الرؤية، ولم يعد ممكناً التمييز بين من وجد نفسه وأعاد اكتشافها مع نبض "الثورة"، وطوفان الجماهير ومن وجد الفرصة ليلهو لعله يبلغ ما يريد ، وانتشر ذلك الوباء السياسي الذي افسد "الثورة" وأشاع النحس ، فانحدرت البلاد إلى الهاوية، وقامت القيامة ولم تقعد إلى اليوم . انحسرت خلالها "الثورة" وانتكست رايتها وتراجع المد ، فصار موتاً وخراباً تتسع ميادينه، وتتغير أدواته ، لكن شواخصه تظل تعيد توصيف نفسها، لكي تظل القيامة بلا قعود.
(٦)
من أرياف الجنوب وحواضر قربها ، جاء محمد الخضري وشمران الياسري ، فدارت الدنيا بالأول ليتنقل من عمل حزبي إلى آخر ، فيزداد عنفواناً وليتوقد نشاطاً وحيوية وإقداما وجسارةً. لم تظهر عليه أي علامة على الخوف والتردد في اقتحام المصاعب، ولم يتصاغر أمام جلاديه الذين تنقل بينهم في سجونهم ، بل كان يدفعهم ببسالته وثقته بعدالة قضيته إلى الشعور بالجبن. كان يقول إن الجلاد كلما اظهر شراسة أخفى جبناً ، لان الوحدة تلازمهما ، وإذا كشفت له عن ذلك صار أكثر تخاذلاً . ولهذا لم تمنحه أجهزة الأمن المتعاقبة ، فسحة للاستراحة ، كان ينتقل من موقف إلى سجن ، وما أن يتحرر حتى ينغمر في عمل جديد يفتح له باب سجن جديد.
كان أبو سلام الخضري عميق الإيمان بما وهب نفسه له ، ظل يفيض حماسة وثقة ، وبدت قامته دائماً أعلى من المواقع التي عمل فيها ، واكبر شأناً من العديد من مجايليه ، ولكنه مع إحساسه بالغبن ، ظل يكتم غيظه ويرتفع على آلامه وجروح روحه الشفافة ، وكان كلما يشعر بالضيق ، يردد أمام صديقه ، آه أنا اعرف عدوي ، وكلي ثقة بقدرتي على هزيمته ، حتى إذا اقتضى التحدي موتي ! ولكن من لي برفيقي ، وأنا لن أتوانى عن صد الموت عنه بروحي !
على بعد أميال من بغداد عثر على جسد الخضري الطاهر، وقد توزعت مئات الثقوب في كل مساحة منه. لقد أمر صدام أن يمثل بجسده حتى الموت ليصبح عبرة .
وكما تنبأ فقد قبل التحدي ورفض أي مساومة على حقوق المعلمين الديمقراطيين أيام انتخابات نقابتهم ، وأصر حتى اللحظة الأخيرة على أن يخوضها بإرادة حرة ، فدفع حياته ثمناً للقيم التي لم يساوم عليها يوماً.
عشية استشهاده التقى بصديقه ، وكان ينقل ورقاً لمطبعة الحزب السرية، ظل للحظات دامع العين ، يجهش بالحسرة دون أن يعرض أو يتعرض حتى لمن كان على يقين بأنهم يتوهمون بزعزعة إيمانه ، أو بتخريب روحه. وحين رأى صديقه يبكي ، تحول فوراً إلى الضحك ، وانتقل إلى قسمه المحبب في مثل تلك الظروف " والعباس" ما كو شي
مات أبو سلام وتساقط الذين كمنوا له في الحزب، الواحد بعد الآخر.. ولم يبق من صفاتهم، غير ما كانوا عليه حقاً..... مجرد أشباه رجال، ..خونة.
(٧)
وجد شمران الياسري في ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ مبتغاه ، لقد بهره إقدام قيادتها في خطواتها الأولى على إكرام الفلاحين والتأكيد على مكانتهم المتميزة في المجتمع وانعكاس ذلك في أهداف وخطط الثورة . وما أن أعلن الزعيم عبد الكريم قاسم عن قانون الإصلاح الزراعي ، حتى تهللت أساريره واستبشر بنهاية الظلم التاريخي على الفلاحين، الفقراء منهم على الخصوص ، وراح يقدم من إذاعة بغداد برنامجه الشهير "بصراحة" ، ومن تلك اللحظة أماط أبو كاطع اللثام عن مفاجآته التي خبأها مع من خبأها من المتسللين أصدقاء الفلاحين بين طيات جدران البيوت، ورعى سرها كل تلك السنوات وكأنه نذرها دون إعلان لمثل هذه الأيام ، أو للثورة التي ظل يشارك الحلم بها مع الفلاحين منذ أدرك سر الهم الدفين الذي أثقل وجدانه وضميره ، وحدثه عنها معلم يجوب القرى والأرياف ، يبصِّر الفلاحين بأسباب الظلم المسلط عليهم ووسائل وأدوات الخلاص منها ، ويعلمهم القراءة والكتابة .
كان القدر قد فتح له باب المعرفة وفتح عينيه على عالم كان مغلقاً . وحين التقط الإشارات الأولى ، وفك رموزها حفظها على الغيب ، ولم يعرف وقتها أن في فك تلك الرموز متعة لا تضاهيها متعة.. فقد اطل منها على عالم يضج بالجمال والعلم ، وكانت تضمحل أمام بهجتها شدائد الحياة بكل تعقيداتها وتشابكاتها، بما تخبؤه لمن يفك تلك الرموز مثله من محن وأهوال وألم عميق ونوائب ، ولكنه رأى في أفراحها ومسراتها سياجاً معنوياً رادعاً يقي عنه التعديات والعسف في الظروف التي يتكالب فيها المعذبون أدوات المستبدين ووسائل قهرهم .!
حين أعلن المذيع من إذاعة بغداد ، والآن نقدم لكم " بصراحة أبو كاطع" خيم الصمت المطبق في أنحاء من الريف والمدن، لكن الصمت بعد أيام أطبق على كل المدن والأرياف ، وخلت الشوارع من المارة وتجمع الناس حول اقرب راديو ليتابعوا صراحة أبو كاطع ثم حكايات خلف الدواح . ومن ذلك اليوم وتلك السنة ، سطع نجم جديد في دنيا الكتابة الشعبية التي لم يتوقف وهجها حتى اللحظة الأخيرة من حياة أبو كاطع. طوال شهور ما بعد الثورة كان الفلاحون يتوافدون من القرى والقصبات إلى قرية " الراديو " يتسمرون في مجلسهم وهم يفترشون الأرض ليلتقطوا كل كلمة من حكايات أبو كاطع ، وينقلوها في طريق عودتهم إلى من تأخر في الالتحاق بتجمع أبو كاطع .
تسلل الحزن من جديد إلى روح أبو كاطع ، فهذه الثورة التي حلم طول عمره بها تنتكس وتتحول إلى ملاحقة أبنائها وزجهم في المعتقلات والسجون . وهذه قطعان البعث وعصابات المعادين للثورة من الإقطاعيين وأزلام النظام المباد وكل الحاقدين الذين جمعتهم راية "يا أعداء الشيوعية اتحدوا" تغتال الوطنيين في الشوارع وتتهيأ في الخفاء لتجميع قواها والانقضاض على ما تبقى من منجزات الثورة والارتداد بها ، والزعيم مشغول بملاحقة حلفائه ومؤيديه.
لم يفهم أبو كاطع يوم ذاك، كما لم تستوعب الآلاف من قواعد الحزب الشيوعي ، لماذا يسكت الحزب ، وماذا ينفع شعاره "كفاح تضامن كفاح" ، وأي جدوى من هذا التنازل والقبول بالاعتداء على الشيوعيين والامتناع على الرد.
مر المسلخ البشري البعثي في ٨ شباط الأسود عام ١٩٦٣ برعاية المخابرات الأميركية ودعم مصر عبد الناصر والقوميين وبقايا النظام الملكي . خلال أيام نحر الآلاف من خيرة المناضلين العراقيين ، وجرد العراق من أفضل عقوله وكفاءاته ومواهبه وجرت أبشع تصفيات جسدية وسياسية للمثقفين من الكتّاب والشعراء والفنانين وأساتذة الجامعات ، وامتلأت السجون بهم فلم يبق للجلادين غير تحويل النوادي والمسارح والملاعب والسينمات والقصور الملكية إلى معتقلات ومسالخ للتعذيب والقتل .
عاد أبو كاطع إلى الريف ، وظل فيه حتى الانفراج الشكلي بعد ذلك بسنوات.وعندما عاود نشاطه في "طريق الشعب" ، استرجع الجمهور الكبير من محبي أبو كاطع صراحته وحكايات خلف الدواح. في كل صباح كان القراء يفتحون الجريدة على صفحتها الأخيرة . ولم يقتصر قراؤه على محبيه بل تجاوزتهم لتشمل زبانية صدام وهو شخصياً ، وكان ملف الحزب الشيوعي يتكدس كل أسبوع فيتحول إلى نقاش ونقد ولينتهي إلى تهديد.
في الأخير لم يبق أمام الحزب غير تسفير أبو كاطع إلى براغ ليقضي سنواته الأخيرة فيها.
مات أبو كاطع وشيع إلى بيروت ليدفن في مقبرة الشهداء.
(٨)
عاش محمد الخضري" أبو سلام" وشمران الياسري" أبو كاطع" في زمن نهوض البشرية العظيم ، وتفتحت عقولهم على منجزات تلك المرحلة التي غطت كل الحقول والميادين ، ورغم أن العالم لم يكن قد تحول إلى قرية كونية، فان الناس في كل القارات كانوا مشدودين إلى الأحلام والآمال التي يتشاركون بها ، ويتطلعون إلى تحرير البلدان والشعوب من كل القيود والأوبئة ومخاطر الحروب .
كان الحلم بعالم جديد خاليا من الاستعباد والاستغلال يوحدهم ، وهذا الحلم نفسه كان يحلق في سماوات البلدان العربية والعراق . وان الحلم أقوى محفز ودافع.. وكانت الانجازات التي تحققها الشعوب الأخرى منارات تنير طريق الأمل والحلم . كان البحث عن الحقيقة وتحديد الهدف وترتيب الأولويات ووسائل البحث وأساليب وشعارات النضال في متناول كل التواقين للحرية. وفي تلك المرحلة الزاهية من عمرنا، عمر البشرية ، لم يكن الخضري وشمران حالتين خاصتين ، لقد كانا ملهمين ، ومعهما كان المئات بل الآلاف، ينخرطون في النضال تحت تثير ما تحققه الإنسانية من منجزات. وتحت سحر التحولات العظيمة في كل مكان فوق المعمورة ، والحلم العظيم الذي كان هو الآخر يدور حول العالم فيمس شغاف القلوب ويستثير الأماني والتطلعات ويغذي الهمم، تحدى الناس الطغاة وغيروا ما كان سائداً ، وان لم يستطيعوا الحيلولة دون هيمنة " وطنيين طغاة " لصوص ومستبدين فان ذلك مر عليهم كما لو كان قدراً ، ولم يكن بقدر.
تغير العالم وتغير الناس ، فآن لأحلامنا أن تتجدد، وآن لأدواتنا أن تتجدد، وآن لأساليبنا أن تتجدد، وآن لبيئتنا أن تتشذب ، لتستقبل الأجيال الجديدة التي يهزها التشوف لما كنا نتعاهد على الموت في سبيله.
صحيح أن العالم تعقد وتشابك، لكنه مع ذلك ذلل لنا ما يمكن أن يعوض عن جهود كبيرة لتمكيننا ، مما توفره لنا وسائل المعلومات والاتصال بجهد يسير.
شمران الى ماذا ترنو من بعيد ؟ اسأل خلف الدواح وسيجيبك: وطن لا تستباح حرياته وشعب يريد أن يعيش بكرامة !
يا دواح لقد تلاعبت بالكلمات ، لماذا ؟ أرجوكم افتحوا عقولكم ، تغيروا إن آلاف آلاف المحرومين من كل الأجيال والفئات يترقبون ، فلا تنتظروا أكثر من هذه البشائر بالانبعاث..
أبو سلام ماذا تقول ؟ لقد قلت كل شيء ، ولم يعد لي ما أقول أكثر مما قلت ، تغيروا أرجوكم ....