TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية: من القصور الرئاسية إلى السجون المسكونة .. دولة الآباء.. والبنين

الافتتاحية: من القصور الرئاسية إلى السجون المسكونة .. دولة الآباء.. والبنين

نشر في: 20 إبريل, 2011: 07:29 م

 فخري كريم

 (1)

أثبت العلم على امتداد الزمن منذ العصر الهيليني صدق الفيلسوف العظيم ديمقريطس، وهو يقول إن كل شيء يتغير، وانك لا تستطيع أن تسبح في النهر "الماء الجاري فيه" مرتين،

رغم أن استنتاجه بني على التفكير المجرد، إذ لم تكن المختبرات التجريبية قد توفرت للفلاسفة والعلماء آنذاك. وإذا كان ماء النهر يتغير في كل جزء من مليون على مليار من الثانية ويتعذر عليك أن تخوض في نفس الماء سوى مرة واحدة، فأن مثل هذه التغيرات تنمو وتتراكم وتتحول بنفس المقاييس

 غير المرئية في الحياة الاجتماعية والسياسية، وتنهي سلسلة تفاعلاتها إلى ما نواجهه من انتقالات نوعية في أشكال وأنماط وأساليب الحكم والحكام، وفي العلاقات الاجتماعية وتفاعلاتها، وفي انعكاساتها في سائر الميادين.

ولا غرابة ألا يدرك هذه التحولات وسيرورتها في الحياة السياسية، قادة الدول العربية المعاصرة، وكيف لهم أن يدركوا وهم عاجزون عن أن يبصروا ما يدور حولهم من وقائع ومعطيات وأحداث جسام، لا تخفى حتى على الضرير. وكما يبدو فأن عمى البصيرة هو الخيط الرفيع الذي يجمع بينهم جميعاً ويشدهم بوثاق لا فكاك منه إلى كراسي الحكم وحياة القصور والقلاع الملكية والرئاسية، ويوحي لهم بوهم الأبدية والخلود، فبعضهم يرى فيما هم عليه من أسباب الحكم والنعيم إنما هو قدر إلهي، وآخرون منهم لا يكلفون أنفسهم مشقة البحث، فكل شيء مقسوم لهم كتحصيل حاصل لا مردَّ له. ولن يخطر ببال أحدٌ منهم الاتعاظ بتجارب الآخرين ممَّن سبقوه، بل منهم من لا يرى حتى ما يدور من حوله وفي محيطه، وعلى مرأى ومسمعٍ منه، فيغضّّ النظرَ عن كل ذلك ويكتفي بصدى ما يقوله المرتزقة والحاشية المتزلفة المحيطون به، من انه سيد زمانه وحكيم حكماء قومه، وليس هناك من يعلو عليه قدراً وعلماً ودراية وخبرة في أصول إدارة الحكم وشؤونها، ولا طاعة لرعيته سوى له، فطاعته واجبة شرعاً وتقليداً، فتضيع مع الأوهام التي توحى له، أقدار الأمة ومصالحها.

 ومما زاد في غيِّ الأنظمة المستبدة التي استولت على مقاليد الحكم في البلدان العربية، الملكية منها والجمهورية الوراثية، أن بضعة عقود مضت من الجور والبطش الذي مارسته بحق شعوبها، دون أن تتلمس مظاهر تمرّد على حكمها سوى بضعة احتجاجات لـ"خارجين عن القانون" أو "جرذان" كما يسميهم الملتاث القذافي، يعزز من قناعة هذه الأنظمة أن ما تفعله هو موضع رضا الناس وقبولهم، وهو بالتالي قمين بالاستمرار على ذات النهج والتنعم على شعوبها بتوريث الحكم للبنين من بعدهم.

وغاب عن الحكام والأنظمة المستبدة، ما يمور تحت سطح المشهد السياسي والاجتماعي من تفاعلات عميقة وتراكم نوعي وما تختزنه الذاكرة الجمعية من وقائع لاستباحاتهم وانتهاكاتهم للمبادئ والقيم، وهي كلها تنتظر لحظة الانبعاث والتجاوز. ولهذا جاءت العاصفة المدوية في تونس ثم في مصر خارج السياق وخلافاً لأي توقع، وظلت أشبه بكابوس، حاول كل منهم، الراحل والمُنْتَظِر، أن يصده عن نفسه بالتعاويذ التي تعلمها طوال حكمه، رفضاً بالرصاص الحي ثم ممانعة وتسويفاً وتخديراً ثم قبولاً متقطعاً خجولاً، وانهياراً ذليلاً في نهاية المطاف.

لقد انتهى زمن النشوة المتغطرسة وحلَّ يوم الحساب، وهو ما لم يكن في حسبان أحدٍ من هؤلاء الطغاة الذين استباحوا كلَّ المحرمات ودنسوا كلََّ المبادئ والقيم، وتوهموا أن الدنيا استكانت لهم ولأولادهم وخاصتهم ومحازبيهم، ولم يخطر ببالهم أن الكراسي والقصور والقلاع لن تخلد لأي طاغٍ أو جلاد. ونشوة المتغطرس تجعله لا يمكن له تحت أي ظرف، سوى الموت، أن يتخيل انه سيتحول في لحظة ما نزيل سجن أو معتقل، وشاءت له تخيلاته وتهويماته أن تحجب عنه حكمة زيارة السجون لمعرفة أحوال بعض رعاياه ولو من باب وعظهم على بيعته وإبداء الندم على شقاوته في معارضة ولايته، ولو فعل ذلك لتعرّف على حال السجون ومحنة المسجونين، وقد يتسلل إليه ولو من باب الخيلاء انه قد يحل هو أو أبناؤه وآل بيته، يوماً في ضيافة واحد من سجون ضحاياه، وان تلبسته مثل هذه الحالة ولو كشاردة بنت هنيهة، لربما اوحت له بالاهتمام بالسجون وتهيئة بعضها على النسق الملوكي أو الرئاسي افتراضاً بأنه قد يحل نزيلاً فيه، أو تليق له بوزرائه ومسؤولي نظامه ممن تضيق بهم هذه الأيام، بعض معتقلات وسجون مصر، وتثير حفيظة السجناء من عامة الشعب النعيم والامتيازات التي تتهيأ للنزلاء الجدد من الحكام السابقين.

 (٢)

إن نشوة الحكم ودوامها، كما تدونها سجلات التاريخ، وترويها مدونات الحكام منذ فجر البشرية، تُعدي بالتماثل على الجور، ولا توقظ أو تحذر وتعظ من سوء العاقبة والمصير. ونادرة هي الأمثلة التي قدمها التأريخ على انتباه ملك جائر أو حاكم مستبد على ما يقوم به ضد مواطنيه. كما لم يرد في سجل أحداثه، مثلاً على اخذ الطغاة بالحسبان لما ينتظرهم من مصائر وما يحل بهم وذويهم، وما كان عليهم أن يتداركوه من عاقبة لا توفر لهم خلاصاً. ولا داعي للاستجارة بالتاريخ القديم، فها نحن في قلب عاصفة الغضب التي أطاحت بحكام لم يتعظوا ولم يستدركوا حتى في اللحظات الأخيرة التي كان يمكن أن تمنحهم فرصة النجاة بأقل ما يمكن من التبعات والعواقب. ولم ينفع درساً عجزهم عن الإفلات من قبضة الشعب رغم كل ما بذلوه للنفاذ من الأزمة، لغيرهم من الحكام المتغطرسين الذين يتصرفون كما لو أنهم غير معنيين بالعاصفة، بل يتوهمون لقلة حيلتهم  بأنها  "ربيعٌ" جديدٌ يحلُّ على نظامهم المتصدع بفعل البطش والغلّو في العسف والتعدي على مواطنيهم.

ويظلّ هذا البعض من القادة الذين يثبتون كسَلهم وغفلتهم عن التقاط دروس تجارب مجايليهم من الحكام الذين سقطوا والذين ينتظرون، دون أن يرمش لهم جفنٌ وهم يرون دماء خيرة أبناء شعبهم تسيل، وغيظهم المكبوت، والمسكوت عنه يطفو على السطح، غضباً ونقمة وتصميماً على الحرية والخلاص، والحكام الجائرون لا يلتقطون قشة النجاة بوقف الاستباحات والرضوخ للإرادة الشعبية التي لا مردَّ لها، وإيجاد مخرج من العاصفة التي تحاصرهم، بالاستجابة لأماني شعبهم والاستغفار منهم على ما ارتكبوه بحقه من جرائم وتعديات، لعل ذلك  يفتح أمامهم طريق الخلاص ممّا هم فيه من مأزق ويحفظ لهم ماء الوجه وما يبقى لهم من كرامة.

إن عمر الصمت أو السكوت على الضيم قصير، فقد يُخدع الناس لبعض الوقت، كما يقال، لكن من المستحيل خداعهم كلَّ الوقت. ولكل قانون ما ينقضه وما يبطل مفعوله، وهذا ما ينطبق بالأساس على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتاريخ مليء بابتكار الطغاة عبر التاريخ لأساليب كم الأفواه ومصادرة الإدارة وسن قوانين وتشريعات، لقسر المواطنين وإخضاعهم وكسر شوكتهم، لكن الزمن كان دائماً كفيلاً بتجاوز كل تلك الابتكارات وما كانت تشيعه السلطات وقوانينها من مظاهر الخوف والرهبة والاستسلام، لتتحول مع مرّ الزمن إلى قوة معاكسة، تفقد مفعولها ودلالاتها. وهي نفسها سرعان ما كانت تصبح مصدراً للتندر والسخرية من الحكام والتهكم عليهم، بعد أن يتم تفكيك عناصر هيبة السلطة وأجهزتها وأدواتها القمعية ويتداعى نفوذها مع تجرؤ الناس على تجاوز خوفها وسكوتها، بانتقالها من حالة المعارضة الصامتة المكبوتة، إلى ظاهرة النهوض والجهر بما يعكس نفاذ صبرها والتنفيس عن مكنونات غضبها الدفين ورفضها التسلط الأعمى.

(٣)

يظهر من مجرى صعود العاصفة الجماهيرية المستدامة في العالم العربي، أن القيادات عندنا، باختلاف كتلهم وتياراتهم ومواقعهم، هم أيضاً لم يلتفتوا بعد لما تنطوي عليه التغيّرات العميقة التي يشهدها العالم العربي والنتائج التي ستترتب عليها، وليسوا في وارد أخذ العظة أو التجربة منها، ليرفدوا بها رصيد تجربتهم في الحكم وأسلوبهم في التعامل مع الدولة ومصالح المواطنين. كما يبدو أن بعضهم لا يتصور أن سيل النقمة الشعبية وتراكمها يمكن أن يجرفه، وان يضعه خارج الحياة السياسية، وقد تفيض النقمة عليه بأكثر من ذلك.

 وتزداد الشواهد والوقائع الملموسة، على أن مظاهر الاسترخاء والخدر التي توفرها مواقع السلطة ومسؤولياتها على اختلاف درجاتها وامتيازاتها، تدفع أعداداً متزايدة من المسؤولين المتنفذين إلى إعادة إنتاج سلوكيات وعادات تظهر في مجرى تشكل وتكامل ملامح الأنظمة الشمولية والاستبدادية ولا تبرز بوضوح إلا مع ما يبدو انه توطيد لأركانها. وهذه السلوكيات والقيم لا تظهر إلى السطح فجأة إلا مع تكامل بناء تلك الأنظمة على أسسٍ سياسية وتنظيمية وقيمية، وتتغير بفعلها الدولة بنيوياً، وان الملامح الجنينية التي تقوم عليها تتشكل كإمكانية في رحم كل الأنظمة الانتقالية، شبه الديمقراطية، وفي الدولة التي لم يكتمل بناؤها بعد كما هي عليه دولتنا الهشة، ولا تسلم منها أحيانا الديمقراطيات الحديثة، ولكن في بيئة الشرق وفي الأطراف، وفي تخوم المجتمعات شبه المتحضرة وهي تنتقل إلى عالم الحضارة.

إن الفضل في إشاعة مناخ الفساد والإفساد، وخلق الأسس التي تنطلق منها الأنظمة الشمولية في  إنتاج العادات والقيم المرتبطة بها يعود بامتياز إلى الحاكم المدني للاحتلال بول بريمر. انه أول من بذر نواة الفساد المالي والإداري وأغرى بالتجاوز على المال العام حين أقدم على توزيع مئات آلاف الدولارات وملايينها على وزراء ومسؤولين كبار في الدولة تحت بند تمشية شؤون الوزارات والمؤسسات الحكومية، ريثما تعد الموازنة الحكومية، والملفت في هذا التصرف المريب انه سلم المبالغ بلا وصولات رسمية، وبلا حقائب تقليدية، وإنما بأكياس "كونية".!

 وهو وليس غيره من اعتمد للمرة الأولى في العراق الجديد إحالة المقاولات بالجملة عبر الوسطاء العاملين معه، مترجمين كانوا أم مرافقين أو خبراء ثانويين، ومن هؤلاء من أصبح اكبر ممولٍ  ومليونير. وبفضل بريمر تكرّست المحاصصة الطائفية، وفي ظل وصايته أصبح الآباء والبنون حكاماً، يرث الابن موقع أبيه، أو يحتل حصة طائفته في الوزارة ومراكز القرار الأخرى في الدولة.

ولا ينتهي هذا المسلسل من إشاعة مناخ الفساد والإفساد وإباحته، في جسد الدولة الجديدة وبنيانها الرخو من أساسه، بل يتواصل ليشمل كل ميادين إعادة بناء الدولة العراقية والعملية السياسية فيها  ومفهوم المصالحة المعتمدة وقاعدة المنظومات الأمنية والعسكرية المقامة فيها، وغيرها من الميادين والمجالات الحيوية التي يتوقف على وجهة سيرورتها وتطورها، استكمال تكوين العراق المدني الديمقراطي الاتحادي الموحد، ومستقبله.

ومع رحيل بريمر أصبحت قيد التداول قراراته وتوجهاته، وخلف وراءه تقاليد عمله ومناخ الفساد والأدوات التي اعتمدها في إرساء قواعد بناء الدولة وهي تتكوّن. 

وهذه التقاليد التي تنخر اليوم في كيان العراق، وتشتت أي جهد لاستنهاضه والحيلولة دون تعمق أزمته البنيوية. فالفساد أصبح آفة ملازمة لتوأميه، الطائفية والإرهاب.

والصراع الدائر بين ملوك الطوائف وأربابها وأمرائها، وفي إطار كل منها، تتسع مساحته ودوائره وتقوى بصيلاته وجذوره. فالنهب لم يعد يقتصر على الاستيلاء المباشر على المال العام، بل تنوع من حيث الوسائل والمنافذ ولم يعد من السهل التصدي له وتصفية مظاهره، فهو بات يمر عبر وسطاء عرب وأجانب، ومن خلال توجيه الموارد وتبديدها في غير وجهتها الصحيحة، على مشاريع وهمية أو  يزعم أنها تعاد أكثر من مرة، ويكفي متابعة ما قاله مسؤول من على شاشة التلفزيون وأمام مرأى ومسمع من المشاهدين إن إعادة تبليط بعض الشوارع في بغداد ثلاث مرات يعود لضعف خبرة المقاولين العراقيين.!

 (٤)

ويطل علينا مشهد البنين وذوي القربى والمتزلفين والحواشي كجانب آخر للفساد الذي ابتكره بريمر، بالصيغة التي وافق عليها في تسمية الأبناء للتناوب على المشاركة في اجتماعات مجلس الحكم وفي تشكيل أول حكومة ظافرة. فقد اعتمد تفويض كل عضو في ترشيح من يمثله فيها.

ومن اليوم المشؤوم ذاك تقافز الأبناء والبنات والأقارب وآلُ البيت إلى مراكز النفوذ والدرجات الخاصة في قمة السلطة وإطرافها المثلومة حتى كاد حضورهم المهيمن أن يطغي على المشهد السياسي كله، ويبعث في النفوس الملتاعة المزيد من الكرب والنقمة والشعور بالإحباط.

ومن لا يصدق فليرافق خلسة احد السعاة المتنفذين في مراكز القرار وفي مختلف الوزارات والدوائر الحكومية ليرى بالعين المجردة،  مشاهد الآباء والبنين وهم يتحكمون في إدارة الدولة ومصالح المواطنين قبل أن يحين موعد فطام الدولة المسبيّة وتشب عن الطوق .!

أثار معي صديق تفاقم هذه الظاهرة وتساءل عمّا إذا كانت بداية مبكرة لظاهرة التوارث والهيمنة العائلية على السلطة في البلاد. واستعرضنا معاً تجلياتها في مختلف مواقع ومرافق الدولة وشخصنا حالاتها الملموسة، فلم نجد من بينهم سوى مدراء عامين ومستشارين ووكلاء وزارات ومدراء مكاتب ومعاوني مدراء ومساعدين أو موظفين بدرجة خاصة ولكن في المراتب الدنيا. والأقل تأثيراً فيهم، تبين، أنها مديرة مكتب والدها بالباطن أو مدير غير مسمى لوالده أو زوج شقيقته أو شقيق زوجته. واغرب حالة مرّت علينا، مشهد ابن يذهب ليتسلم  نيابة عن أبيه  وزارته من الوزير السابق.!

إن ما تعيشه دولتنا اليوم يشهد على تطور يحسب لها، إذا ما أجرينا مقارنة بالوزارة السابقة التي استعان وزير فيها بكل أركان عائلته لتشكيل طاقمه الوزاري، ولم يبق فيها سوى حفيدته التي اهتمت الوزارة في تهيئة روضة خاصة بها في حرم الوزارة.

لقد وجدت في الحراك الجاري في أروقة الدولة بين الآباء والأبناء، عاملاً ايجابياً، قد ينتج عنه صراع خفي وتجاذبات داخل الأحزاب والكتل والمكونات يؤدي في المحصلة النهائية إلى إعادة اصطفافات وفرز لصالح تقويم العملية السياسية وإضعاف للتجمعات الطائفية وتفكيك لبعض جوانب الفساد.

ولمن لا يعرف خلفيات نشوء وتطور التوارث في الأنظمة الجمهورية، فأن بنات وأبناء وزوجات الرؤساء والوزراء في مصر وتونس وفي اليمن وليبيا والجزائر وغيرها من بقاع العالم (الاشتراكي) السابق بدأ كل منهم،  مجرد موظفين صغار، وعمل بعضهم "بكده وعرق جبينه" سمساراً لدى رجل اعمل أو صيرفياً، وبفضل نبوغهم المبكر، ودون تدخل مباشر من أولياء أمورهم الرؤساء والوزراء والمتنفذين، أصبح بعضهم قادة فرق وفيالق، كما هو الحال في اليمن وليبيا وغيرها، والبعض الآخر جنى الملايين والمليارات، ورغم كل ما يمكن أن يقال عن هذه الظاهرة، فان الحقيقة تشير إلى أنها لم تتحقق إلا بعد عقود من سلطة الآباء وتسلطهم على مصائر البلاد والعباد، فأي زمن خرافي، يعيشه العراق الديمقراطي، لتبدأ فيه رحلة المشاركة في الحكم قبل التوارث ولما تزل الدولة تحبو ولم يحن بعد فطامها.

في التعرف على الحقيقة حول ادوار الآباء والبنين، يكفي السؤال أو الاطلاع عن قرب على موظفي الدولة الكبار، وعلى المكاتب، وسجلات الرواتب، فستظهر أسماء وأرقام وأعمار ودرجات وفضائح، ومن لا أثر له فيها، فابحثوا عنهم في مكاتب الشركات الكبرى  والوسطاء والسماسرة المعروفين في عمان وبيروت ودبي والقاهرة وهناك ستعثرون على من ضاع أثره عليكم. فلا تعجبوا إذا ما وجدتم شركاء الأبناء والأقارب ورجال الدولة المترفين منهم والزهاد، الشركاء السابقين لعدي، وحاملي كوبونات النفط ومن على شاكلتهم. ولا تخشوا من ضياع اثر احد منهم، فهم ظلوا محافظين على سيمائهم ولم يحوروا ملامحهم السابقة بالعمليات الجراحية التجميلية، لأنهم لا يجدون فيها غضاضة أو خشية من ماضٍ معيب كما نتوهّم، لأن ماضيهم إنما هو جواز مرور لهم لا يرد، فقد تعلموا فنون البزنس ومتطلباته في مدرسة عدي، وأصبحوا مراجع وفقهاء في أصولها وفروعها.

بقي أن نتمنى على كل المسؤولين والوزراء وقادة الكتل والأحزاب والنواب، التوابين منهم والأصلاء أن يخصصوا بعضاً من وقتهم الثمين للاطلاع على رحلة الرؤساء العرب المغيبين منهم في المعتقلات والسجون، والذين لم تتحدد مصائرهم، وما إذا كانت رحمة السجن ستستر عليهم أو ينفتح أمامهم باب الهروب، لعلّ فيها نافذة للرحمة والمغفرة، لكن فيها دون أدنى شك مساحة واسعة للمتعة والتندر المفيد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram