فخري كريم
(٢)
في خطوة تفتقر الى الحكمة وبعد النظر، أصدر الحاكم المدني للاحتلال بول بريمر"قانون اجتثاث البعث"، قاصداً أو"متظاهراً"
بذلك انه يستهدف إقصاء أزلام النظام الدكتاتوري عن المراكز الحساسة والحيوية في الدولة، وتجريدهم من إمكانية تجميع قواهم ثانية وإعادة تنظيمها في القوات المسلحة والجيش للوثوب الى السلطة ثانية عبر الانقلاب العسكري. لكن ما يثير الشك في نوايا بريمر، انه كان في نفس الوقت، يوسع دائرة المحيطين به من رجالات البعث ونظامه
من العاملين في القصر الجمهوري والدوائر الحساسة الأخرى، بدعوى أنهم"موالون"للتغيير! دون أن يكلف نفسه عناء التوثق من القيادات العراقية المعنية بالتغيير عن السيرة السياسية لهم، بل على العكس من ذلك فقد أصبح هؤلاء هم مجساته للتعرف على الأوضاع العراقية ومستجداتها ورجالاتها"الصالحين".! وقد ذهب أبعد من ذلك، باعتماده على العديد من هؤلاء في الإشراف على إعادة بناء الوزارات ومؤسسات الدولة.
وقبل وصول بريمر كانت القوات الأميركية قد دخلت الى بغداد وهي تحمل صور (٥٥) مطلوباً من قادة البعث والنظام الدكتاتوري المنهار، مطبوعة على ورق اللعب"كوتشينة- دسته" التي سبق وان نُشرت وعُممت على نطاق واسع في وسائل الإعلام العالمية على امتداد الفترة التي مهدت لبدء العمليات العسكرية على قوات صدام حسين.
وكان القصد من تعميم"الكوتشينة - دسته"الإيحاء بان الخمسة والخمسين من قادة النظام هم وحدهم من يتحملون وزر الجرائم التي ارتكبتها الدكتاتورية طوال عقود تسلطها، وهم المستهدفون بالقصاص، أو هكذا أرادت الرسالة أن توحي.!
وبالفعل تبين في ما بعد أن قوات الاحتلال لم تحفظ في"حاسباتها"معلومات عن غيرهم مطلوبين للملاحقة القضائية سواءً كانوا من العسكريين أم المدنيين، مما سمح لقيادات معروفة بالمسؤولية عن جرائم النظام بالإفلات من قبضة العدالة والمغادرة الآمنة الى دول الجوار عبر المنافذ الحدودية الرسمية، وهم يحملون وثائق عدم تعرض من مكاتب الحاكم المدني، سهل لهم الحصول عليها رجالات القصر الجمهوري السابقون، الذين أصبحوا موظفين متنفذين في مكاتب بريمر"ومجساته العراقية"الموثوقة.
إن تحديد ٥٥ مطلوباً من قيادات النظام السابق والتبرئة الضمنية لغيرهم، شكّلَ أول صدمة أخلاقية لملايين العراقيين الذين عاشوا طوال 3٥ سنة في ظل سلطة لم توفر وسيلة لتشويه"آدميتهم"وازهاق أرواح مئات الآلاف منهم في حروبها ومغامراتها العبثية الداخلية والخارجية، وإلحاق الدمار بالبنية التحتية للبلاد وتبديد وإفراغ الخزينة من احتياطياتها وإثقال الميزانية العراقية بالديون الباهظة التي تجاوزت تريليون دولار، بالإضافة الى نشر الخراب والتخلف والأوبئة في أرجاء البلاد.
لقد كان من المفترض أن تلتقط القوى السياسية وتتفهم المغزى العميق من"الكوتشينة - دسته"باعتبارها رسالة مقصودة من المحتلين"المحررين"تعكس محاولة بـ"وسيلة الحرب"لاستدراج العراقيين لتنفيذ"الخطة-المشروع"الذي دعت الى إمراره، الدبلوماسية الأميركية سواء بشكل مباشر بإغراء صدام حسين على قبوله، أو عبر بعض الحكومات الخليجية التي روجت له وفاتحت به الدكتاتور مباشرة. وكانت الخطة- المشروع، تقضي بالإبقاء على النظام القائم كما هو عليه، ولكن بلا صدام حسين وأولاده والطغمة المفضوحة المحيطة به!
ومعروف الآن أن دولاً عربية وإقليمية، كانت متحمسة للخطة الأميركية المذكورة، لأنها رأت فيها ضماناً للحفاظ على البنية السياسية والتركيبة القائمة عليها، وهو ما يدرأ عنها ما تخشى أن تكون تغيرات دراماتيكية، تغير من موازين القوى في المنطقة لصالح إيران. وهذا التوجس الذي كان يخفي في حقيقة الأمر نزعة طائفية مشبوهة، وعداءً"قومانياً"مضمرا للكرد والقوميات المتآخية الأخرى التي يجمعها النسيج العراقي الوطني، وهو الذي دفع هذه الأوساط والدول الى دعوة الإدارة الأميركية لتمكين صدام حسين من قمع انتفاضة 31 آذار عام ١٩٩١ من خلال السماح له باستخدام المروحيات العسكرية وتحريك الدبابات لسحق المنتفضين.
إن القصور السياسي أوحى لذوي الأمر من العراقيين أن الرغبة في إيجاد أرضية مناسبة للمصالحة بين مكونات المجتمع هي التي اوحت للأميركيين بـ"كوتشينتهم"وما أقدموا عليه من تحديد دائرة المسؤولين المجرمين من النظام السابق. كما أن البعض منهم تبنى الادعاءات الإعلامية التي جرى أوسع ترويج لها في الصحافة الأميركية والأوربية ووسائل الإعلام العالمية الأخرى، ودفعت باتجاهها بلدان خليجية وعربية، والتي كانت تقول بان النظام السابق كان"نظاماً سنياً"وان سلطته كانت تعبر عن مصالحهم. وهذا يعني في نهاية المطاف أن الصراع الذي يشهده العراق الجديد، إنما هو صراعٌ بين السنة والشيعة والكرد.
لقد كان لهذا التوجه السياسي،الذي ربط السنة العرب بالنظام الدكتاتوري وصورهما كتوأمين متلازمين، من حيث التمثيل المذهبي والتعبير عن المصالح، انعكاسات خطيرة على العملية السياسية ومجرى تطورها ومستقبل النظام الديمقراطي المدني المنشود.وكانت وسائل الإعلام العربية مبادرة في الترويج لهذا التقسيم للعراق على أساس طائفي وعرقي، وسباقة لإطلاق التسميات التي تعبر عن ذلك. فهي أول من وضعت خارطة مذهبية للمناطق المختلفة التي لم تعتد عليها الذهنية العراقية، إذ أطلقت للمرة الاولى مصطلح المنطقة الغربية"السنية"و"الجنوب الشيعي"والتكوينات المناطقية الأخرى وفقاً للطبيعة الدينية والمذهبية والعرقية والقومية فيها، وهو ما لم يكن في وعي العراقيين ولا في ذاكرتهم الجمعية.
وكانت الدوائر الأميركية سباقة هي الأخرى في الترويج لهذه المفاهيم والتوجهات، وهي التي كرست دولة ملوك وأمراء الطوائف والملل قبل سقوط الدكتاتورية، بل في وقت أبكر من ذلك بكثير حيث تركز الجهد الأميركي بالتعاون والمشاركة المباشرة وغير المباشرة مع الدول العربية والإقليمية المعنية بالشأن العراقي ومستقبله، العربية السعودية وإيران وسوريا ومصر والمملكة الأردنية وتركيا وغيرها من الإمارات والدول الخليجية، على تكوين إطار للمعارضة تنتظم فيه القوى والأطراف العراقية وفقاً للانتماءات الطائفية والدينية والعشائرية والمناطقية. وهذا ما نجحت في تحقيقه، الدول المذكورة. وكان لتلك القاعدة التي قبلت بها الأطراف الرئيسية في المعارضة أوخم العواقب على العراق والعراقيين وانعكست في الانقسام الذي عاشه العراقيون بعد ٩ نيسان ٢٠٠٣ وما تزال نتائجها تتفاعل سلبياً حتى الآن.
إن الفراغ السياسي والإداري الذي أعقب سقوط النظام الدكتاتوري، وغياب رؤية وإرادة مشتركة توحّد معارضي الأمس، وإحكام القوات الأميركية سيطرتها على شؤون البلاد، حتى قبل فرض الاحتلال بقرارٍ أممي، خلق بوتيرة سريعة بيئة سياسية انتعشت فيها قوى الردة، مستفيدة من انطلاق القوى الكامنة التي ظلت مأسورة الإرادة طوال عقود وعهود، لتشيع القلق والمخاوف بين المكون العربي السني، ولتستدرج أوساطاً منه الى تبني مفهوم توأمته مع البعث ونظامه، ولتثير المخاوف بين صفوفه من الحملات الانتقامية التي يمكن أن تتعرض له.
وقد غذّى هذا الاتجاه السلبي، الانتقال الجماعي لقواعد النظام السابق من القيادات والكوادر المعروفة ومن المراتب العسكرية العليا الى مدن المنطقة الغربية، الفلوجة والانبار، التي أصبحت حتى قبل ٩ نيسان، مرتعاً وطريق مواصلات للقاعدة والتنظيمات والميليشيات المسلحة، التي قَدم بعضها في وقت سابق الى العراق لنصرة صدام حسين. وترافقت هذه الهجرة السياسية المقصودة مع حملة إعلامية وسياسية متصاعدة من الأنظمة العربية الطائفية بطبيعتها، وكذلك من الأوساط القومانية الشوفينية المتمذهبة في نزوعها، تتهم القوى العراقية بالعمالة للاحتلال والامتداد لإيران، وتستنفر العرب والمسلمين للجهاد ضد الغزاة والحكم الجديد.
في هذا الوقت كان بريمر قد أصدر فرمانه الشهير بـ"الحكم على الميت"أي حل الجيش العراقي الذي شكل إعلانه، عامل تحفيز على الاستقطاب السلبي، كما جاء فرمانه الثاني بـ"اجتثاث البعث"ليعزز القناعة بأن حملة تصفيات انتقامية قادمة لا محالة. ولتوخّي الموضوعية لابد من الإشارة الى أن انتقال الكثرة من القادة السياسيين والعسكريين المعروفين بهوية طائفية معينة والذين انتقلوا الى المناطق الغربية، واستهداف العديد منهم الذي جرى ليس بسبب انتمائهم الطائفي وإنما لارتباطهم القوي بالنظام السابق وولائهم المطلق للبعث، قد عمّق القناعة، لدى شرائح واسعة بعيدة عن العمل في الحياة السياسية المنظمة، بان عليها أن تتيقظ وتستعد وتلتئم على بعضها البعض، تحسباً لما سيأتي من أيام مشؤومة.واستفاد بقايا البعث والقاعدة وأنصارهم من هذا التحول الذي جرى في اصطفاف القوى ودفعها الى تغذية ذلك بكل الوسائل المتاحة، وقد كانت كثيرة، بفضل سياسة"الكاوبوي"التي انتهجتها القوات الأميركية وممثلو الإدارة السياسية في مكاتب بريمر، وتحول الصراع الذي كان يفترض أن يوحد العراقيين ضد بقايا الدكتاتورية وأنصارها وإيديولوجيتها الفاشية، التي تخلصوا منها تواً، الى صراع بين المكونات العراقية نفسها، لتبدأ أسوأ مرحلة من المواجهة الدموية والتصفيات على الهوية.
ولم يكن ذاك الذي جرى"قدراّ محتوماً"، أو تطوراً موضوعياً لا رادّ له...
ولكن هل كان ذلك تعبيراً عن ضعف تكويني في وعي القيادات السياسية، أو انعكاساً لقلة حيلة وانعدام تجربة؟
أم كان في الأساس استراتيجية التقت عند تخومها أهواء ومصالح؟