TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الدولة المنسية وثلاثية الفساد والإرهاب والطائفية: التمثيل المخل للطوائف ودوافعه المشبوهة

الدولة المنسية وثلاثية الفساد والإرهاب والطائفية: التمثيل المخل للطوائف ودوافعه المشبوهة

نشر في: 24 إبريل, 2011: 07:33 م

 فخري كريم

(٣)

إن عودة إلى الماضي قليلاً ، للتعرف على الإصطفافات التي تكونت في السنوات الأخيرة من عمر النظام البعثي الشمولي ،

توفر للمتتبع أن يرى أن الحياة السياسية في الداخل ، أُفرِغت تقريبا من الأحزاب السياسية المنظمة ،

حيث تمكن النظام  من إلحاق أقسى الضربات بالتنظيمات الديمقراطية والقومية ، وان يصفي قواعدها وكوادرها دون أن يوفر أي وسيلة قمعية وحشية . وفي خطوة تالية ، شدد صدام حسين قبضته على حزب البعث وجرده من أي مظهر للتعبير عن رأي أو موقف آخر في مواجهة خططه الجهنمية المغامرة ، على المستويين الداخلي والخارجي ، وحوله إلى أداة عشائرية أولا ثم إلى إطار عائلي محكوم بإرادته الفردية المطلقة.

وإمعاناً في نهجه هذا ، صفى صدام حسين جميع خصومه أو من افترضهم منافسين له من العناصر القيادية والكوادر التابعة من صفوف البعث  بوسائل لم تكن بأرحم مما استخدمها مع الأحزاب والقوى الأخرى .

في مثل هذه الأجواء التي سادتها التصفيات الجماعية المشبعة بالوحشية والانتقام ، وإفراغ الحياة السياسية من أي صوت أو صورة ، سوى صوت وصورة صدام التي لم يعد أمام العراقيين ما يسمعون أو يرون  غيرها ، خيم اليأس والاستسلام واللامبالاة على أوسع الأوساط الشعبية ، وحل الشك وانعدام الثقة حتى بين أفراد العائلة الواحدة.

وكان من آثار ذلك ، ومن أخطاء ارتكبتها قوى وطنية بحق نفسها قبل غيرها، تدهور في القيم والمفاهيم وتراجع في الحياة السياسية والفكرية وانغلاق في الأفق . وازداد الوضع التباساً وإرباكاً بسبب مواقف وسياسات " البلدان الاشتراكية " التي اعتبرت العراق والأنظمة العربية المماثلة لها آنذاك  إطاراً لحركة التحرر الوطني ، وأطلقت على إجراءاتها الاقتصادية الفاسدة ، " توجهاً لا رأسمالي "  وجرى الاحتفاء بها وتقييمها ليس بالانطلاق من سياساتها الداخلية القمعية المعادية للديمقراطية ، وإنما اعتماد على سياساتها الخارجية المنافقة ذات الوجهين المتناقضين ..، على أنها" نهج " وطني معادٍ للامبريالية "  وبفعل تلك العوامل مجتمعة ، اختلطت على الأوساط الجماهيرية التوّاقة إلى الحرية و العدالة الاجتماعية ، المفاهيم والأفكار والتوجهات بما كان يروج لها البعث في العراق ، والأحزاب الرسمية في البلدان الأخرى على أوسع نطاق باعتبارها تجسيداً عملياً على تطلعاتها ومعتقداتها ، ووظفت لتسويق بضاعتها الرثة، إجراءاتها الاقتصادية وسياساتها الاجتماعية التي قدمتها على أنها تنطوي على الطابع "الاشتراكي التقدمي" المنشود.

 وبهذه الصورة المزورة تم تسويقها والترويج لنماذجها في المنظمات والمحافل الدولية، كل هذا كان يجري بالتزامن مع اشد الحملات القمعية والتصفيات الجسدية ضد الشيوعيين والتقدميين والقوميين والحركات الإسلامية المناهضة للبعث .

لقد تعمقت العزلة السياسية التي أحاطت بالمجتمع العراقي خلال العقدين الأخيرين من عمر النظام، وشددت من تأثيراتها حالة الإفقار والعوز التي تعرضت لها كل الشرائح الشعبية، وفاقمتها أيضاً العزلة عن الخارج وما أصاب المجتمع نتيجة لذلك من انهياراتٍ وتخلف وتدهور في كل الميادين والمستويات العلمية والثقافية والاقتصادية والتعليمية ، انعكس على المستوى العلمي والخدماتي والمعيشي ، وأنتج هياكل وعادات وتقاليد وقيما اجتماعية وأخلاقية مقطوعة الجذور عن الماضي وتراكماته الايجابية في سائر ميادين الحياة الإبداعية والخلاقة . لقد سعى النظام بكل ما تيسرت له من الأدوات لتحطيم الشخصية العراقية المتوازنة الايجابية وتفكيكها وإعادة خلق نموذجين متقابلين، نموذج الضحية المنكفئة اليائسة المشدودة إلى الرغبة على البقاء، والبحث عن مصادر ديمومة الحياة بعيداً عن الانكسارات والضياع، ونموذج الجلاد، الذي يعيش على حساب ضحاياه، وبينهما جمهور تسحقه الفاقة والقلق، ويستدرجه الأمل الذي سرعان ما ينطفئ، كلما لاح بريقه .

ومن كثرة الآمال التي كانت تلوح في الأفق وتتوارى خيوطها وراء السدم ، هجر العراقيون التفاؤل من إمكانية الخلاص من النفق المظلم الذي تسللت إليه البلاد في السنوات الأخيرة .

لقد ضاقت فسحة الأمل في النفوس حتى بدت كما لو أنها الوهم بعينه ، خصوصاً، بعد سلسلة الأزمات التي كانت تشدد الخناق على صدام حسين، وسرعان ما تنفرج عنه ، بما يشبه المعجزات وبالذات أثر فشل انتفاضة آذار 1991.

وفي المسافة التي كانت تفصل بين انطفاء ومضة الأمل، وصعود آخر الأزمات التي تلمّح لنهاية صدام حسين وبين الشك والخوف من ضياع فرصة جديدة ، سقط النظام الاستبدادي ، وتداعى بنيانه وتصدع الصنم وانهار وسط اندهاش وتردد وعدم تصديق .

وكل ما تكون بعد ذلك من مشاهد الفوضى والنهب والحرائق والقتل المجاني وتراجع الأمن والأمان ومناطق العزل الطائفي والعرقي وظواهر الشبّيحة  والحواسم والانتقالات الفجائية من حال إلى حال ، والتغيرات المناخية والاختلاطات الأخلاقية ، لم يكون سوى أطار اللوحة السياسية والاجتماعية التذكارية للمشهد العام للعراق الجديد الذي وقع مراسيمه الأولى بول بريمر  وباركها ملوك وأمراء الطوائف ، بالأحرف الأولى ليكون رمزاً وشاخصاً بليغاً  لثماني سنوات عجاف لا تزال  تتفاعل وتعيد إنتاج صورتها الكئيبة .! 

 وفي خلفية هذا المشهد العام ، ومنذ الأيام الأولى للتغيير وسقوط الطاغية ،بدأت دوامة حركة الإدارة " المتعددة المراكز والمصالح "للاحتلال بمختلف أجنحتها: البيت الأبيض ، البنتاغون ، المخابرات الأميركية ، وزارة الخارجية ، وغيرها من الإدارات المتسترة بالواجهات المعروفة في مختلف الاتجاهات سعياً وراء إيجاد توازن ، يساعد من وجهة نظر كل دائرة ، على تطمين المكونات العراقية وتأمين قدرٍ ممكن من الاستقرار للوضع الجديد، وهو ما لم تفشل بتحقيقه فحسب ، بل عجّلت من تشديد تناقضاته وصولاً إلى تفجيرها والتمهيد السياسي والعسكري لانفلات امني ظل يتمدد ليتحول إلى عمليات إرهابية و مواجهات طائفية على الهوية .

ولعبت التباينات وتعارض المصالح بين الممثليات الأميركية ووجهات نظر كل منها في تفاصيل الوضع (وظهر فيما بعد جهلهم بها) دورا تصعيدياً في وجهة تطور الأزمة التي بدأت تتبلور بسرعة ، مع توسع وازدياد التدخل العربي والإقليمي في الشأن العراقي .

إن التصادم الخفي بين الأجهزة المخابراتية والعسكرية من جهة، وتوجهات البيت الأبيض ووزارة الخارجية وفريق بريمر من جهة أخرى انعكس بوضوح في تحرك كل طرف منها ، لتطويق الأزمة التي أخذت  تشير بعض اتجاهاتها بوضوح إلى أنها مرشحة إلى أن تشهد توسعا في  النشاط المسلح الإرهابي ، دللت على مدى خطورتها وعواقبها، تحول مدن بكاملها إلى مناطق آمنة للقاعدة والإرهابيين وفلول البعث والنظام الدكتاتوري .

وعوضاً عن اتخاذ الإجراءات السريعة ، والفعالة لحماية الحدود العراقية ومنافذها ، وكان هذا بمستطاعها ، تصرفت بمنتهى الاستخفاف مع هذا الاستحقاق الأمني والعسكري ، وبدلاً من مد جسرٍ سياسي مع أهالي المدن الغربية وعشائرها ووجهائها ممن لم يكونوا ميالين إلى الانخراط في العمل ضد النظام الجديد، والاستماع إلى هواجسهم ومطالبهم  وبذل الجهد المكثف الدؤوب لفرزهم سياسياً عن قواعد البعث والنظام السابق والميليشيات الإرهابية، جرى استفزازهم والتحرش بهم ، والتعرض لعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية والعشائرية . وبدا هذا التخبط بأجلى صوره في التعامل السلبي المتعالي مع منتسبي الجيش المنحل من الضباط والمراتب العسكرية التي أطلقت جماعات منها نداءات علنية طالبت فيها بمعالجة قضاياهم بعدالة ، وحسم أوضاع عوائلهم المعيشية، سواءً بإعادتهم الى مراكزهم  أو تنسيبهم إلى وظائف أخرى في الدولة أو إحالتهم على التقاعد، واقرنوا نداءاتهم من بعد ما تكررت دون استجابة ، بتهديدات تشير إلى أن استمرار هذا الوضع والموقف اللا مبالي والسلبي  سيضعهم أمام خيار الانحياز إلى العمل المسلح و " المقاومة " .

وفي بغداد وسائر المدن قابل الجيش الأميركي دعوات المواطنين لتخليص محلات سكناهم من كدس الأسلحة ومخازنها ، بان" هذا ليس من شأنهم لأنهم جنود وليسوا عمال بلديات ".

 إن أحد المظاهر الفاضحة لسياسة الاحتلال،  يكمن في توصيفه للوضع ما بعد سقوط صدام حسين، كثنائية شيعية - سنية، وشريك كردي، وفسيفساء من المكونات الدينية والمذهبية والعرقية .  والتوصيف للدلالة على تعددية المجتمع وتنوعه صحيح ، لكن استخداماته وإعادة تركيب الحياة السياسية في العراق الجديد على أساسه ، دون اعتماد المواطنة وتجلياتها ، شَطَرَ المجتمع والحياة السياسية إلى كانتونات طائفية ومكوناتية ، دون أن تتحقق لكل منها استحقاقاتها السياسية، بل أنابت عنها أحزاب وحركات تدعي تمثيلها وتحتكر حقوقها دون من تدعي تمثيلها من طوائف ومكونات .. وعلى هذا الأساس المخل والمختل تم إرساء المحاصصة الطائفية.

وكان التعامل مع السنة العرب ، بوصفهم  الوجه الآخر للنظام الساقط وورثة البعث الحاكم ، من أسوأ البدع الأميركية المضللة. ويعود الفضل في بلورة هذا المفهوم  والترويج له، لشخصيات عربية سنية، بعضهم من البقايا الثانوية المغمورة من النظام المنهار، رأت في هذا المنحى والدفع باتجاهه في وسائل الإعلام وفي المحافل العربية والإقليمية وتبنيها مجالا للاستفادة في تقديم نفسها في مقدمة المشهد السياسي ووجدت في الجانب الأميركي حاضنة لها وفي ممثلية الأمم المتحدة وموظفيها وما تقوم به من ادوار مؤثرة عاملاً في تكريس هذا النهج  ومصدراً للعثور على من ترى أهمية للنهوض بهذا الدور المزدوج " السني - البعثي " واستقطابه لمثل هذا التمثيل.. والملفت أن المجتمع السني، متجسد في حواضره، تقبل هذا الربط المسيء له،  وعبر عن تعاطفه مع من دعا إليه في الحياة السياسية، ومنحهم الأصوات التي زكت دعاواها .

إن مصادرة التمثيل العربي السني ، وهو مكون تعرض لقمع وتصفيات ، في ظل سلطة البعث وطغمته ،شكل وما زال  إساءة بليغة لهم، من قبل من تصدروا العمل السياسي باسمهم وهمشوا دورهم، وتعمدوا لاعتبارات لا تجسد مصالح العرب السنة او تطلعاتهم الوطنية ، الخلط بينهم كمكون مذهبي وطني ، وتمثيلهم للبعث ونظامه وما يترتب على ذلك من تبعات وانعكاسات سلبية .

وفي هذا الجانب تتجلى مواقف الشخصيات التي مثلت النماذج المذكورة لتكريس جل نشاطها السياسي كما لو أنها معنية بالدرجة الأساسية ، لتزكية البعث والبعثيين والإنابة عنهم والدعوة في كل المناسبات لإعادة الاعتبار لهم والتخفيف من وطأة الجرائم التي ارتكبها نظامهم الدموي الفاشي ، والمطالبة الملحة  بإيقاف أي ملاحقة لهم ، حتى وان اتخذت صيغة مساءلة قانونية .

 ويخطئ من يظن أن الرموز السياسية التي حملت هذا المشروع ودافعت وما تزال عنه بقوة وفي سائر المجالات، تعبر بذلك الطموح في معافاة الحياة السياسية وإيقاف مسلسل التصفيات الثأرية، بوسائل العنف وغيرها ضد الخصوم السياسيين وحملة الرأي المختلف، لان مثل هذه الرغبة تعكس أماني وتطلعات جميع الوطنيين العراقيين، وبلوغها يستلزم عكس ما يقومون به وما يستهدفونه .

فالتوجه لتنقية الحياة السياسية والمجتمع من مظاهر العنف والتصفيات والانقلابات العسكرية، ووضع حدٍ لمظاهر العزل الطائفي والكانتونات الأخرى، وتحريم الانتقام الشخصي والمواجهة والقتل على الهوية، يستلزم بالضرورة إدانة النظام السابق بكل أسسه الفكرية والإيديولوجية والتنظيمية وأساليب حكمه، واعتبارها إرثا لا يتصل بعادات وتوجهات وقيم العراقيين بكل مكوناتهم ومشاربهم وعقائدهم وطوائفهم .

إن أفضل تجاوز لهذا التشويه الذي لحق بالمواطنين من العرب السنة، هو بإدانتهم لمن حمّلَهم وزر جرائم البعث ونظامه واعتبرهم استمراراً لهما، وهذا التجاوز يتحقق بالتأكيد على أن المواطنة الحرة المتساوية المبنية على الوطنية والكفاءة والنزاهة، هي الطريق لإعادة حياكة نسيج المجتمع العراقي، وتوطيد أركانه دولة في إطار نظام ديمقراطي اتحادي ودولة مدنية، تخترق الحواجز الطائفية وتتعالى على الحساسيات الفرعية .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram