TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية:الدولة المنسية وثلاثية الفساد والإرهاب والطائفية: الاجتثاث والتبعيث..

الافتتاحية:الدولة المنسية وثلاثية الفساد والإرهاب والطائفية: الاجتثاث والتبعيث..

نشر في: 27 إبريل, 2011: 07:36 م

فخري كريم

(٦)

 في سياق إحكام قبضته على البلاد، شرّع رأس النظام الاستبدادي المنهار طائفة من القوانين والتعليمات لتبعيث الدولة والمجتمع وتصفية أي مظهر يتعارض مع ذلك.

وإمعانا في تدابيره التبعيثية، قام بمسح دقيق للميادين والمجالات الحيوية في كل زوايا الدولة، ووضع لكل حالة في الدولة أو المجتمع، ما يناسبها من تدابير وتوجيهات واطر قيادية مناسبة، وإغراءات تحفز على التشدد في التطبيق والمبادرة، بحيث سد كل المنافذ أمام من يفكر بالإفلات منها والنيل من قيمها،

حتى أصبحت ممارسة الشعائر الدينية، كالصلاة والصوم موضع مساءلة للقياديين والكوادر البعثية، ويتذكر المتابعون لتطور عملية التبعيث سيئة الصيت، مشهد صدام وهو يسأل عضواً قيادياً في اجتماع قطري عرض في التلفزيون، "هل يحتاج البعثي إلى الصلاة ليتأكد من سويّته، ألا يكفيه الإيمان بالحزب كمحكٍ للإخلاص".!

وبفضل قوانين الإعدام والأحكام الثقيلة والتعليمات المشددة وبوسائل الإغراء والوعيد، لم يعد أمام احد أن يفلت من رجس "هوية البعث" أو المنظمات التابعة له، إذا ما أراد أن يجد له فرصة للدراسة والعمل أو التقدم فيهما، أو في أي نشاط ثقافي أو مهني أو اقتصادي أو حتى لضمان سلامته والحفاظ على سلامة عائلته من المساءلة والتعقيب.

  ورغم الطابع الاضطراري لانخراط أغلبية العراقيين في تشكيلات البعث ونشاطاته، إلا أن الطابع البوليسي الفاشي للنظام اظهر ذلك كما لو انه ولاءٌ مطلق طوعي للبعث ومبادئه وقيمه، وان أي مواجهة معه يعني مواجهة مع الشعب العراقي. لكن هذا الطابع "الشكلي العام" لسيادة مظاهر "التبعيث" العلنية والنفور العام الحقيقي في الواقع عن نزعاته وممارساته وفكره الذي اختزل في تمجيد الطاغية كرسا مع مرور الزمن واستمرار سلطة البعث في المجتمع وفي الدولة،  في لا وعيهما، "قيماً" وعادات وسلوكيات ومواقف، بدت كما لو أنها مستقلة عن "إيديولوجية التبعيث" التي أشاعتها السلطة وحزبها وأجهزتها القمعية ومنظماتها بترويج يومي من وسائل الإعلام والتوعية، واتخذت طابع "غسيل دماغ" جماعي.

ومثل هذه الظواهر التي تكتسب في المجتمع طابعاً "قيَميّاً" وتتحول إلى عادات وسلوكيات ومواقف وأعراف وأخلاقيات، لا تتغيّر أو تُصفى بقرارات إدارية أو أوامر حكومية أو قوانين، وإنما قد تتعمق بفعل ذلك وتدوم، إذا لم تواجه بما "يَصدمُها" من قيم معاكسة وينظف اللا وعي من ترسبات القيم السلبية بإعمال الوعي وأحكامه وتأثيراته. إن التغيّرات البنيوية التي لم يلتفت إليها القادة السياسيون الجدد كانت تكمن في جانب منها بعمق هذه الظواهر وتجلياتها، والتي لا تزال تخيم على الواقع العراقي وتشوه الكثير من معالمه وتنعكس في الشخصية العراقية ولا تثير الجدل حول أسبابها وسبل معالجتها سياسياً.

 وكما لم تستطع القيادات العراقية أن تتوقف أمام الآثار والنتائج التي أنتجتها سياسة التبعيث وأيديولوجيتها، عجزت سلطة الاحتلال، ليس بمعزل عن بعض هذه القيادات في تشخيصها والتوقف أمام مظاهرها، وتحديد سبل مواجهتها والبحث عن الوسائل الكفيلة بالتخلص منها. وكعادة الأنظمة المستبدة، أو الحكام الكسالى أو المغفلين، فان أسهل وسيلة لمعالجة أي إشكالية مهما تعقدت، تمر إما عبر القمع أو بواسطة تشريع القوانين القسرية الغريبة عن الواقع. ولهذا التدبير لجأ بول بريمر الحاكم المدني للاحتلال "لإزالة" آثار سياسة التبعيث وعواقبها المدمرة في المجتمع وعلى الدولة السائرة في طور التكوين، واصدر قانون اجتثاث البعث، الذي أمد بعمر البعث وأفاض عليه بممثلين جدد يحملون رسالته المهلهلة ويدافعون عنه ويُحَمِّلون العرب السنة، زوراً وبهتاناً، وزر جرائمه وتبعات نظامه الفاشي. وبتبني هذا القانون ضاعت أكثر من فرصة على العراقيين، وعلى سيرورة العملية السياسية، وعلى بناء الدولة بأسسها الديمقراطية المُنَزّهة من أدران البعث ونهجه السياسي والإيديولوجي وأساليب حكمه. كما أدى ذلك ضمنياً إلى إعادة إنتاج "صيغ مُكيّفة" من اطر وقيم وشخصيات هي نفسها كانت بشكل مباشر أو بالتبعية من أدوات التبعيث ونتائجها.

إن  قانون اجتثاث البعث "Debaathification" استنسخ من قانون  "Denazification" "إزالة أو تصفية النازية" وأريد له أن يكون متماثلاً معه، فلم يراعِ الخصوصية العراقية، ولا التعقيدات التي تحكمت في المشهد السياسي بعد سقوط النظام "شبه الفاشي"، كما لم يأخذ بالاعتبار جملة عوامل أخرى، من بينها على سبيل المثال وليس الحصر، التنوع الذي يتكون منه المجتمع العراقي وما يتطلبه ذلك من معالجة استثنائية، فالنازية والفاشية في ألمانيا وايطاليا، اتخذتا بالدرجة الأساسية طابعاً طبقيا، ولم يجرِ التعبير عنهما كما لو أنهما تجليات عن قومية أو طائفة بعينها. وهذا التعقيد وحده كان يتطلب وقفة وتأملاً خاصاً. ومع أن هذا الإقحام المفهومي، لا يعكس واقع الاصطفاف الطائفي إلا ظاهرياً، بحكم ما رافق الدولة العراقية منذ تأسيسها، من عُرفٍ وتدابير ضمنية، فقد عمد البعث ونظامه إلى تكريسه في الوعي العام وفي مظاهر تمييزٍ لا يتحمل مسؤوليتها من حاول تلبيسها لتبعيتها السياسية، وإقحامها في ما أشيع من مفاهيمها وممارساتها الطائفية. ولا بد أن يجري التصدي بكل الوسائل السياسية، لتصفية الادعاءات بالتمثيل العربي السني للبعث ولنظامه.

 إن خطيئة بريمر قدر تعلق الأمر بقانون الاجتثاث الذي أصدره، تنعكس في عدم إدراكه أن سقوط نظام البعث وحده كفيل بالإجهاز عليه تحت وطأة جرائمه، شرط تأمين الوسائل الإجرائية والسياسية الفعالة لعزله ونبذه وفضح ارتكاباته دون هوادة. ومن بين مستلزمات ذلك إلغاء جميع القوانين والإجراءات والصيغ التي اعتمدها في تبعيث الدولة والمجتمع. وكذلك اتخاذ كل ما يلزم للحيلولة دون إفلات أي مجرم مسؤول عن ارتكاب الجرائم بحق العراقيين وليس الاكتفاء بـ"دستة" الورق اللعينة المحببة للأميركيين. إن مجرد استخدام ورق اللعب في التعامل مع ما تعرض له العراق من ويلات ودمار وخراب يعكس مدى ضحالة الذين أوحوا باستخدامها، وغربتهم عن قيم وتقاليد الشعب العراقي.

لقد كان المجتمع العراقي، متعاطفاً مع التغيير بدوافع متباينة، منها في الأقل الخلاص من الحروب والمغامرات والحصار والعزلة والويلات التي ألحقها النظام بالعراق والعراقيين، باستثناء قلة ممن ينتمون عن قناعة ليس إلى حزب البعث، وإنما إلى صدام ويربطون مصائرهم بسلطته، ولم يكن صدام حسين وقياديوه، يقدرون عدد هؤلاء بأكثر من عشرات الآلاف، وليس حتى بمئات الآلاف.! وكانت قطاعات الشعب المتعاطفة، التي تضم أوسع قاعدة حسبت على البعث ونظامه رغماً عن إرادتها وكراهة منها وقسراً وضرورة، تنتظر ما يشيع في صفوفها الاطمئنان والقناعة بان ما تطمح إليه من حياة كريمة سيتحقق، وان العدالة والمساواة والحرية والأمن والاستقرار سيسود البلاد. وجاء قانون الاجتثاث وقرار حل الجيش، ليوجها صفعة لكل هؤلاء، وليساعدا على خلق مناخ يفرض عليهم الانحياز "القسري" هذه المرة أيضا إلى صف المجتثين، والتعاطف مع من يعلن التعبير عن (مشكلتهم) من السياسيين الجدد، وربط مصائرهم والدفاع عن المصالح بهم. لقد قدم بريمر ومن شجعه دون وعي وسوء نية، خدمة مجانية لفلول البعثيين المهزومين، ولو معنوياً، بتجاوز الإحساس بالعزلة الشعبية والهزيمة، ولو على أضيق نطاق، ومكن الكثيرين منهم من إيجاد قواعد للتنقل والتحرك السياسي، بوجوه ومسميات جديدة، وشجع سياسيين جددا على الدفاع في وسائل الإعلام عن نظام صدام حسين وتزيين جرائمه، بل وفي تخوين "القادمين" من الخارج.! ولم يتحرك هؤلاء بلا غطاء وتشجيع أميركي ومن دول أخرى متحالفة مع الأمريكان، ومن دول جوار عربي وإقليمي، سرعان ما بادرت لاحتضان الممثلين عن "العروبة" و"المعادين" للاحتلال، الذين أصبحوا بفضل ذلك كله في ما بعد "مقاومة وطنية إسلامية" ضد الاحتلال الأميركي، وفي مرحلة لاحقة حلفاء لهذا الاحتلال ضد "الخطر الإيراني الصفوي المجوسي"  ثم مشاريع حكم بدعم أميركي وإقليمي وعروبي.!

ومن الواضح الآن أن قانون اجتثاث البعث تحول إلى أداة بيد سياسيين لإجراء تعديلات في موازين القوى، ووجهة العملية السياسية، وقاعدة لأوسع نفوذ وتأثير لبلدان جوار عربي وإقليمي، ولبلدان وإمارات أبعد واقل شأناً. وكان من نتائج هذا القانون أيضا، إلى جانب كثرة من العوامل المساعدة الأخرى، تحَوّل العامل العربي والإقليمي، بامتياز وعلناً إلى عامل داخلي مقرر. وقد ارتبطت بفعل هذا العامل كتلٌ سياسية علناً بالمحور الجديد، لتقبض منها القيادات المساعدات المجزية والمعاشات والمنح الشخصية وتتفاخر بعلاقاتها هذه وما تتلقاه من دعم ومساعدات بلا أي مساءلة أو حساب.

أما ما ظل يعبث في كيان الدولة والمجتمع من تبعيثهما، فان أحدا لم يتوقف ولم يدعُ  ويطالب باتخاذ تدابير وتشريعات تحد منها وتصفي نتائجها وآثارها ومظاهرها المزرية، لان مفهوم المصالحة التي كرستها سلطة الاحتلال وواصلتها الحكومات المتعاقبة بتشجيع أميركي وعربي وإقليمي، استقر على رفض أي تعرض بالبعث "فعلياً" "وعملياً" بالرغم من إنكار الجميع العلاقة بالبعث ونظامه!

إن مواصلة إهمال معالجة ظاهرة تبعيث الدولة والمجتمع، وعدم مواجهة القوى والأطراف التي ترفض ذلك وتخلط بين تحقيق المصالحة الوطنية والإبقاء على مظاهر التبعيث القديمة والجديدة سيؤدي إلى عرقلة أية مساعٍ جادة للنهوض بالعراق ويبقي عوامل الانقسام الداخلي ويستثير بين فترة وأخرى نزعات الانتقام والثأر والمواجهة

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram