شاكر لعيبي
يبدو بأننا قد لا نقراً، في الإرث العربيّ التقليديّ، تعريفاً ملموماً وعميقاً للصورة، مثل الذي نقرأه للراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات في غريب القرآن):
"الصورة ما يَنتقِش به الأعيان ويَتميَّز بها غيرها وذلك ضربان أحدهما محسوس يدركه الخاصة والعامة، بل يدركه الإنسان وكثير من الحيوان بالمعاينة، كصورة الإنسان والفرس والحمار والثاني معقول يدركه الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خصَّ بها شيء بشيء".
قد تبدو لغة النص متعسّرة لأنه مكتوب في القرن الثاني عشر الميلادي من طرف الراغب الأصفهانيّ (المتوفى عام 502 هـ / 1108م) وهو أديب وعالم، أصله من أصفهان، وعاش ببغداد. ألف عدة كتب في التفسير والأدب والبلاغة، من أشهرها (محاضرات الأدباء) و(حلّ متشابهات القرآن). وإذا ما أردنا كتابة النص بلغة اليوم، مع المجازفة في ذلك، فأن الراغب يقول إن الصورة هي ما يُنقَشُ بالمظاهر (أو المرئيات) - عون والجمع أعيان تعني فقهيا الحاضر من كل شيء-. وهي تميِّزُ كل مرئيّ عن غيره، وهي على صنفين: الأول ملموس يدركه الخاصة من النخب والعامة كليهما بل الإنسان مع الكثير من الحيوان عبر المراقبة والمشاهدة (المعاينة) كهيئات الإنسان والفرس والحمار، والصنف الثاني - وهنا يلتبس النص قليلاً للوهلة الأولى - يُدرَك بالعقل ولا تدركه إلا النخبة الخاصة مثل نمط الصورة المخصوصة بالإنسان المزوَّد بالعقل والتفكير والدلالات الممنوحة للأشياء.
بعبارة أخرى هو يقول، بلغة أكثر حداثة، أن الصورة هي المنقوش بها المرئيّ (المظاهر، الأعيان) وهي تستطيع التمييز بين مرئيّ و مرئيّ. لكن الراغب لا يتوقف ويمضي مباشرةً شارحاً:
"وإلى الصورتين أشار بقوله تعالى: (ثم صورّناكم - وصوّركم فأحسن صوركم) وقال (في أي صورة ما شاء رَكَّبَك - يصوُّركم في الأرحام) وقال عليه السلام: (إن الله خلق آدم على صورته) فالصورة أراد بها ما خصَّ الانسان بها من الهيئة المُدرَكَة بالبصر والبصيرة وبها فضّله على كثير من خلقه، وإضافته إلى الله سبحانه على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه، تعالى عن ذلك، وذلك على سبيل التشريف له...". إنه يقول إن صورة الإنسان، شكله وهيئته التي يُدرِك البصر ُ والبصيرةُ تميُّزَها، إنما هي متفرِّدة فريدة أو هي بورتريه مثاليّ بلغتنا اليوم، لأنها على صورة الله نفسه (وهذا بعض الوعي المسيحيّ): صورة الإنسان هي الصورة العليا. وهو أمر يقال نادراً في الفكر الإسلاميّ بسبب رفض فكرة التجسيم والتشبيه، ولكن ما سمح للراغب بذلك هنا هو أنه كان في معرض إيضاح مثقف متنوِّر لمعنى ودلالة الصورة وتقريب الفكرة للأذهان المعاصرة له. لفهم هذا النص على نحو جليّ فإن ترجمته إلى لغة أوربية قد تبيّن أهميته. وهو ما حاولناه (بنقاش مطوَّل حول ترجمتنا الفرنسية مع صديقنا ميلود علي الخيزر ، ومع يوسف الناصر للإنكليزية):
L'image est ce qu’avec quoi les apparences sont gravées tout en les distinguant, et sont de deux sortes : l’une tangible, compréhensible par les élites et le public, voire compréhensible, par observation, de la part de l'être humain et de nombreux espèces d’animaux, comme (la figure) de l’homme et du cheval et de l’âne, la seconde est concevable par le privé seulement, et celle-ci est propre à l'homme, englobant la raison, la réflexion et les significations données aux chose (ou objets)..
°°°°°
The Image is where the appearances are engraved and distinguished by it, in two kinds, first one tangible, comprehensible by the elites and the public, even comprehensible, through observation, by human being and many species of animals, like (the figure) of man, horse and donkey, the second kind is conceivable by the private only, as an image proper to man, encompassing reason, reflection and meanings given to things (or objects).
قد يُطرح السؤال فيما إذا كنا أكيدين أن الراغب يقصد بالصورة ما نقصده نحن بمفردة (Image)؟ نعم، دون شك، ومنذ الفعل الذي يستخدمه (ينتقش، يُنقش). وكذلك قوله (بل يدركه الإنسان وكثير من الحيوان بالمعاينة، كصورة الإنسان والفرس والحمار ..). وهو ما قصده أيضاً مؤلفون أخرون يذهبون إلى تحديد أبعد من ذلك للصورة على أنها ذات أبعاد ثلاثة Trois dimensions وأنها تُدرَك بالمحسوس (بحاسة البصر)، كالجرجاني في كتابه (التعريفات): "الصورة الجسميّة جوهر متصل بسيط لا وجود لمحله دونه قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم في بادئ النظر، والجوهر الممتد في الأبعاد كلها المدرك في بادئ النظر بالحس". وهذا تعريف عميق آخر يستحق توقفاً وتأملاً.
المفارقة الناجمة من ذلك كله أن ثقافة الصورة تغيب عموماً في حضارة الإسلام، لكن الكلام عنها حاضر وبأعمق ما يكون.