لطفية الدليمي
لعلّ الكثيرين منّا - وبخاصة المشتغلين في الحقل الثقافي - يشهد ملامح الدعوة إلى الفلسفة وتنشيط العقل الفلسفي في بيئتنا العربية ،
وقد إتخذت هذه الدعوة شكلاً أقرب إلى الصحوة الفكرية التي تسعى لوخز مكامن التبلّد والجمود والإستكانة في العقل العربي الذي عانى الكثير تحت سطوة المواضعات الدينية والدرس الفقهي . هذه الدعوة هي دعوة محمودة في متبنياتها العامة ونبل المقاصد الداعية إليها ؛ لكن ثمة بعض التفاصيل الصغيرة التي تجدر الإشارة إليها ، وفي التفاصيل يكمن الشيطان اللعوب كما تنبؤنا الأمثولة المعروفة .
أولاً : لاينبغي التصوّر أنّ تحريك جذوة الدرس الفلسفي ( على صعيد التعليم والثقافة العامة معاً ) هو تعويذة ( إفتح ياسمسم ) التي ستفكّ لنا مغاليق الإنسدادات التي نعانيها على صعيد العلم والتقنية ، وبالتالي ستمكّننا من إعتلاء ناصية إقتصاد المعرفة الكفيل بفتح نوافذ جديدة للتمكين المالي - للدولة والأفراد معاً - بعيداً عن مظاهر الإقتصاد الريعي التي تمسك بخناق معظم مجتمعاتنا العربية . الذائقة الفلسفية التي يحرّكها عقل فلسفي مدرّب على مساءلة الثوابت في كل جوانب الحياة هي ذائقة لازمة لتحقيق تثوير حقيقي في الإنجاز العلمي والتقني وولوج بوابة إقتصاد المعرفة وعتبة الثورة البشرية الرابعة ؛ لكن هذه الذائقة وحدها غير كفيلة بتحقيق هذه المقاصد النبيلة التي لاتتحقق إلا بتوافر عناصر أخرى يمكن دراستها في أدبيات التنمية المستدامة.
ثانياً : لاتنفكّ تصدح الحناجر بأهمية الفلسفة وضرورتها في إحلال المياه النقية محلّ المياه الراكدة ؛ لكن أية فلسفة هي المبتغاة في تثوير العقل العربي ؟ إنّ الملاحظ في الأدبيات الفلسفية السائدة في جامعاتنا وثقافتنا العربية أنها تتموضع في ثلاثة أشكال معروفة : فذلكات تأريخية أقرب إلى الهوامش الخاصة بتدوين الوقائع التأريخية الخاصة بفلسفة محدّدة ، أو فلسفة تتصادى مع بعض جوانب تراثنا الذي ماكانت فيه الفلسفة سوى شكلٍ مضمر من الدرس الفقهي وعلم الكلام ، أو رطانات لغوية هي في أغلبها ترجمات فجّة لبعض الفلسفات الموصوفة بِـ ( مابعد الحداثية ) والتي سادت في القارة الأوربية ( فرنسا بخاصة ) بعد الحرب العالمية الثانية ، وقد إدّعت هذه الفلسفات إحداث (قطيعة إبستمولوجية) مع الفلسفات السابقة لها عبر تعشّقها مع الثورات الحديثة في اللغة والسايكولوجيا الإدراكية ،،،، إلخ ؛ لكن ماحصل لاحقاً هو إنكفاء تلك الفلسفات في مواطنها في حين لايزال لدينا بعض من يتوهّم في نفسه القدرة على نفخ الحياة في جسم ميت عبر تلال هائلة من الرطانات اللغوية البائسة التي لاتكاد تتمايز عن الرطانات الفقهية .
ثالثاً : عند إحياء الفلسفة في بيئتنا لابدّ من الإنتباه إلى حقيقة شيوع ماأصبح يسمى ( الثقافة الثالثة ) - تلك الثقافة التي تتجاوز محدوديات كل من الثقافتين الكلاسيكيتين العلمية والأدبية نحو ثقافة تخليقية توظّف الأفكار الجديدة في الحقول المعرفية الخاصة بالذكاء الإصطناعي وأصول الكون والحياة والوعي البشري ، والنظم الدينامية المعقدة ، والتعلّم الآلي ، والبيولوجيا التطوّرية . ثمة دعوة تشيع اليوم في العالم الغربي مفادها أن الفلسفات التي سادت في بداية الألفية الثالثة ماعادت قادرة على التناغم مع متطلبات الثورة الرابعة ، وبسبب هذا شاعت مقولة ( موت الفلسفة ) ! . إذن علينا الإنتباه منذ البدء إلى ضرورة أن نبدأ بتكريس الأطروحات الفلسفية المتناغمة مع الثورات العلمية والتقنية في عصرنا بدلاً من جعل الفكر الفلسفي ينزوي في جزيرة معزولة .