ستار كاووش
ببساطة متناهية يمكنني القول، بأني لا أملك نظرية خاصة وليست ليَّ قواعد محددة وخطوات معينة أثناء الرسم، والذي أعرفه هو أن أبدأ فقط
والبقية تـأتي بإيقاع يتناسب مع مشاعري في تلك اللحظة، أضع الألوان على الباليت وأمضي في لعبتي المفضلة، والعملية أشبه بصبي يطارد الفراشات، وهو غير متأكد من لون الفراشة التي ستستقر أخيراً في شبكته الصغيرة. لا يخلو الأمر من مغامرة وتردد ومحاولة للتوقف أحياناً ثم العودة من جديد، مثل قط يعبر شارعاً مزدحماً بالسيارات، ولا يدرك أن لحظته الحاسمة هذه ستنقله الى الجهة الأخرى سالماً أم ستطيح به فجأة تحت العجلات. لا أعمد الى نوايا مسبَّقة أو تحضيرات تخدش عفوية الرسم ونضارته، وهذا فعلته أيضاً حين أعطيت في هولندا ولبضعة سنوات دروساً في الرسم، وقتها كنت أحاول أن أقود المجموعة بطريقة تبدو غير مألوفة ولا متوقعة بالنسبة لهم، كانت بسيطة في ظاهرها لكنها كانت مناسبة لتوظيف مواهبهم على نحو صحيح، وهذا ما أريده أيضاً لنفسي كفنان.
أتوجه صباح كل يوم نحو المرسم لأجد هناك أفكاراً وتقنيات تنتظرني، وبإعتباري صانع صور من نوع ما، فعليَّ الاجتهاد للبحث عن مصادري التي تعزز طاقتي وتدفعني للأمام، ومع ذلك لا أؤمن نهائياً وبأي شكل من الأشكال بالإلهام المَحض في الابداع، وأقصد هنا بالالهام، هو الانتظار وقتاً محدداً لإلتقاط شذرة معينة أو إلتماعة ما قد يطول ترقبها أو استحضارها، بل أبدأ الرسم كما ابدأ يومي، وأمسك فرشاتي فور فتحي باب الأتيليه. زادي في الرسم هو أي شيء يقع تحت عيني، أجلس لأقلِّبَ الاشياء التي بين يدي وأفركها كما يُفرَكُ مصباح علاء الدين، فيضاء المرسم وتنفتح مخيلتي. أهم لحظتين في عملية الرسم هي، لحظة إمساكي بالفرشاة صباحاً وأنا أهم بوضع أول لمسة على قطعة القماش، وهذه الأنطلاقة هي التي ستحسم مسار اليوم كله، والثانية هي لحظة التوقف عند انتهاء العمل الفني، لأنها هي التي تحدد إن كنت رساماً جيداً يعرف لحظة التوقف الحاسمة وإلا سَيُتلَفُ كل شيء إن إستمريت بالعمل. الأفكار الكثيرة تتلف الرسم أيضاً وتقوده الى الإمتلاء وقت حاجته لبعض المساحات التي تجعله يتنفس، وكلما كانت الأفكار بسيطة كانت قيمة الرسم مرتفعة، وهذا ما فعله كبار الرسامين على مرّ التاريخ (عدا إستثناءات ضرورية). أدعم رؤيتي بالتركيز على الصور التي تمضي أمامي في الحياة وامسك من خلال هذه الصور بموضوع ربما يكون عابراً وصغيراً، محاولاً جعله لوحة جميلة من خلال المعالجة والعلاقات اللونية وتناغمات الخطوط والألوان، وتبقى البساطة هي سر الخلود، والمتعة شيئاً أساسياً أثناء الرسم، لذا لا أحب المواضيع الحزينة والكئيبة لأنها لا تعكس مشاعري وروحي وشخصيتي، وإن إضطررت يوماً لفعل ذلك فربما سأتوقف حينها عن الرسم.
أعيشُ بين ثقافتين يشكلان المصدر الذي يغذي تجربتي، هما ثقافتي العراقية التي تربيت وسطها ودرست وتكونت شخصيتي وقوي عودي، وثقافتي الهولندية التي أعيش وسطها منذ أكثر من عشرين سنة ومنحتني عيناً ثالثة، حين فتحت أمامي المعارض والفرص والاستقرار والطمأنينة، وقد وجدتُ مقاربات لم أكن أتوقعها بين الثقافتيين، على الاقل مقاربات تفيدني في الرسم والمضي في هذه الحياة بيسر، لذلك صرتُ أغرف من عوالم بغداد بيد، وباليد الأخرى أنهل من الآرت ديكو والايقونات والواقعية السحرية وغير ذلك الكثير، لتصبح لوحاتي مزيجاً من الشرق والغرب، حتى صارت هذه اللوحات تشبه شطيرتي الصباحية حين أبسط الجبنة الهولندية وسط الخبز العراقي وألتهمهما معاً، فأتَمَثَّلُ الأثنين ويصبحان قطعة من جسدي. حتى حين أنظر الى الحدائق الخضراء في هولندا، أشعر بأني شجرة جذورها عميقة في أرض العراق، بينما أغصانها الخضر تزهر في هولندا.