اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: طبق رطب وزنبيل لوبياء

قناطر: طبق رطب وزنبيل لوبياء

نشر في: 25 أغسطس, 2019: 06:57 م

 طالب عبد العزيز

لم يقوّض زحفُ المدينة على الريف، في وسط وجنوبي العراق الارضَ الزراعيةَ والانتاجَ الزراعي حسب، إنما أتى بمعِوله على جملة العلاقات الاجتماعية، والروابط الانسانية فيه،

فقد (انتفت) حاجة البعض لبعضهم الآخر من البذور والشتلات والفسائل وتهادي الأنواع النادرة من الفاكهة والنخل والحبوب وغيرها، بما فكك الأسر هناك، وزعزع ترابطها الدهري، هذا الذي كان قوامها في التحابب والتجاذب والألفة.

قد يبدو كلاماً مثل هذا غريباً عن البعض اليوم، وقد يستهجن أحدهم بلوغ الأمر الى الحد هذا، لكنَّ الحقيقة أمرُّ وأمضى. فقد احتفظت بعض الأسر في أبي الخصيب على سبيل المثال بأنواع نادرة من بذور الطماطم والخيار والباذنجان والباميا واللوبياء وغيرها، بما جعل حاجة الناس اليهم موجبة وضرورية، مع أنهم لا يستوفون مبالغ من الذين يطلبونها منهم، فيما ظلت أسرٌ أخرى تمتهن الفلاحة وصعود النخل وغرس الفسائل وتسويق التمر وسواها من المهن، بكل عفوية وبراءة، وتضاعفت حاجة الناس لهم، مع إنهم لا يضنّون بها على أحد من جيرانهم . كل ما يفعلونه لا يقابل بأثمان، إنما للمساعدة والتعاطف ومحبة فعل الخير.

كان أبو ناصر أفضل الجميع في صناعة عروات الزنابيل والجلل والفراوند(ألة صعود النخلة) فهو يصنعها من الليف المستخلص من النخل، ثم يوّشعه ويفتله ويبرمه، ليصبح حبالاً متينة، تتضافر بقوة بعضها، ليستعين بها فلاحو القرية على أمر صعودهم ونزولهم من النخل، آمنين على حياتهم، وكان (مهدي الحداد) إذا أكمل صناعة منجل يجبرك على الاحتفاظ به مدى الحياة، فهو تحفة فنية، مثلما هو آلة تعينك على قضاء حوائجك في القطف والقصِّ والتشذيب، ومثلهما كان الملا حمدي في صناعة الحصران ومثلهم جميعا كان بيت حجي مدن في احتفاظهم بأنواع نادرة من بذور الطرح(القثاء).

مات هؤلاء بسعاداتهم تلك، لم يجنوا من المال إلا ما كان أودهم في الحياة ، فلا مال ولا جاه. كانت السعادة عندهم هو قدرتهم على تقديم المزيد مما يملكون، وهم لا يملكون شيئاً. الابتسامة والضحكة العامرة والبِشّْر الدال على سعة الصدر والقناعة، هو كل ما يملكون .كانت سلال الفرح مليئة عندهم، تأتي اليهم مما يحسنون من الحرف والمهن وما امتلكوا من أنواع البذور. السعادة عندهم أن يعترف الناس بما يقدمونه اليهم، وسعادتهم أنهم ظلوا امناء على المناجل والفراوند والحصر والبذور حتى آخر لحظاتهم، كانت الآلات والبذور والفسائل هي الوشائع والوشائج التي مكنتهم من الحياة والبقاء هناك، بين النخل وعلى الانهار، آمنين على ما تبقى لهم من الايام.

أما وقد جُرّفت الأرض وردمت الأنهار وسويت بالرمل والاسمنت والحديد والإسفلت، فقد أتت بظلامتها على أجمل علاقات إنسانية على وجه الأرض، فهي الافلاطونية في معنى من معاني الخير والتوادّد. لقد انتفت حاجة الناس للناس، وأي حاجة ؟ لم يعد الفلاح هذا، الذي بستانه على النهر ذاك، يطلب من جاره حبلاً ومنجلاً ومسحاة وبذوراً، وتراجعت أجمل الهدايا، وأي هدايا؟ طبق من رطب وسلة من عنب وزنبيل من لوبياء وبرنية من لبن. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram