ستار كاووش
القُبلةُ لغة عالمية، والناس على مختلف ثقافاتهم يُقَبِّلونَ بعضهم، لكن مع ذلك يختلف النظر الى القُبلات والتعامل بها من بلد الى آخر،
ففي هولندا مثلاً عندما تلتقي بك امرأة صديقة أو من المعارف، فهي تتبادل معك ثلاث قبلات على الخدين، سواء كان ذلك في البيت أو المقهى أو الشارع أو أي مكان آخر سواء كان عاماً أو خاصاً، ثلاث قبلات لا يمكن أن تنقص واحدة مهما حدث، وهذا أحد جوانب الثقافة والتقاليد الهولندية التي لا تتغير مع الزمن، لذا حين تخرجُ الى مكان ما وتلتقي بمجموعة من الصديقات تحظى بقبلات ذات اليمين وذات الشمال قبل البدء بأي كلام أو حديث. وأستعيد هنا معرضي السابق الذي اسميته (بغداد في الشمال) الذي أقمته في هولندا التي تقع شمال العالم وإردتُ أن أنقل لها شيئاً من ملامح بلدي، حينها كان عدد الزائرين كبير جداً، وأغلبهم من النساء، عندها قلت لأحد أصدقائي ضاحكاً وسط المعرض: تلقيتُ اليوم أكثر من ثلاثمائة قبلة، وهذا الأمر يستحق أن أقيم من أجله معرضاً كل بضعة أشهر.
إن حدث وزرتَ بيت صديقة ما في هولندا، فإنها تقدم لك كعكة واحدة، تفتح المضيفة غطاء علبة الكعك المعدنية التي تشبه العلب التي تظهر في لوحات الطبيعة الصامتة، لتأخذ أنت واحدة، وتقوم هي بعدها بغلق العلبة! وهذه أيضاً عادة هولندية ثابتة، هكذا يطعمك الهولنديون كعكة واحدة ويقبلونك ثلاث قبلات عند كل لقاء ومثلها عند الوداع! وأنا بطبيعتي أفضل القبلات على الكعك، وذلك ليس لعدم ميلي للمعجنات والحلوى، بل لأن القبلات تقرّبني من الناس أكثر، وهي أشد دفئاً وحنواً من كل أنواع الكعك حتى لو خرج هذا الأخير تواً من الفرن، فالكعك بمختلف أنواعه يمكن أن تشتريه من المتاجر والأسواق، لكن القبلة تُمنَحُ لك كتحية ومحبة وسلام، وتشعرك بحرارة اللقاء وعاطفة الناس وجمال تواصلهم، وأنا عند كل لقاء أقول في سري: قَلِّلوا الكعك رجاءً بل إلغوه تماماً إن أحببتم وزيدوا عدد القبلات.
كل لقاء هنا ينطوي علـى قبلات وكل مصادفة تنثر فوق خديك مجموعة ترفة من المعاني، فإن عادت جارتي من إجازتها مثلاً ورأتني صدفة أمام البيت، عندها تتجه نحوي بشكل عفوي قبل دخولها المنزل وتقبلني وتحدثني قليلاً عن سفرتها، وان صادفتُ صديقة أو اكثر في السوبرماركت، حينها نتبادل القبلات ونتنحى جانباً للحديث حول آخر المستجدات والتفاصيل، وإن التقينا بيوم العائلة فإن عماتي العزيزات (عمات زوجتي) ينهلّن عليَّ بالقبل والترحيب، وهكذا يمنحك الود والعاطفة والمحبة شعوراً بالطمأنينة والسعادة. وبما أن الهولنديون يعرفون أن كل بلد ينظر الى موضوع القبلة بشكل مختلف، فهم حين يكونون خارج هولندا يقومون بإخبار الشخص الذي يتعرفون عليه ويودون تحيته عن العدد الصحيح للقبلات الهولندية، وهي ثلاث لا تقبل النقصان، أو يقبلونهم ثلاث قبلات ويوضحون لهم بعدها إن ذلك جزء من ثقافتهم.
في سنوات بعيدة مضت، حين تعرفتُ على أول صديقة لي في مدينة كييف، وكانت فتاة ريفية ترتسم على خديها دائرتين حمراوين وكأنها لوحة مائية لريبين، جاءت من روسيا البيضاء تجرب حظها وتبحث عن فرصة في كييف، وبعد حديث قصير معها تجرأتُ وَقَبَّلتُ جبينها، فما كان منها سوى ان تضربني على خدي ضربة خفيفة بيدها ثم تشير بإصبعها الى المكان الصحيح للقبلة، وكان ذلك أول درس لي في التعامل مع امرأة روسية من سليلات يسينين وشاغال.
رأيتُ ليس من العدل أن أنادي بالمحبة بين الناس وأشير الى محاسن القبل في أرض الله الواسعة، دون أن أرسم ذلك في لوحاتي، لذا قمت برسم المحبين الذي يقبلون بعضهم في عشرات اللوحات وعرضت ذلك في معارض عديدة. ومثلما حصلتُ على قبلات ليس لها حد ولا حصر، توزعت أيضاً قبلاتي التي رسمتها في لوحات على أشخاص كثيرين وبيوت مختلفة وصالات عرض متنوعة، في هولندا وخارجها.