ستار كاووش
إبتدأ الأمر حين قالت لي جارتي يانتشا (كل شخص يمكنه تعلُّم ركوب الدراجة، لا يتطلب ذلك سوى يومين)،
إستعدتُ كلماتها في اليوم التالي حين كنت عائداً الى البيت من معهد اللغة، وقد لمحتُ دراجة زرقاء قديمة وضعها جاري الشاب أريك أمام حديقة منزله، تتدلى منها قطعة صغيرة من الكارتون مكتوب عليها مجاناً (وهذه عادة هولندية يقومون بها عند توفر شيء زائد عن الحاجة)، هكذا حصلتُ على دراجة من نوع أوما فيتس، لأخرج مباشرة صحبة جاريَّ رولوف وياكوب، حيث سار الأول بدراجته أمامي وذات الشيء قام به الثاني خلفي، وأنا بينهما أحاول أن أتوازن على دراجتي، فسرتُ بضعة أمتار، ترنحتُ خلالها يميناً وشمالاً لأنحدر نحو ساقية صغيرة، فعَدَّلتُ هيئتي وبدأت من جديد وسط التشجيع الممزوج بالضحك، وما أن سرت بضعة أمتار أخرى حتى فقدت السيطرة على التوقف في الوقت المناسب لأجد نفسي وسط حظيرة الدجاج الذي تقافز مفزوعاً في مزرعة جارنا العجوز برتوس وسط ضحك زوجته وأبناءه. في اليوم التالي، وبعد مجموعة من المحاولات إصطدمتْ ركبتي بشجرة بلوط ضخمة، فقلتُ لصديقيَّ -بعد أن افتعلت الشعور بالألم- تَرَجلا قليلاً ولنعود الى شارعنا مشياً، فبادرنا صوت ضاحك إنطلق من عتبة باب مشرب القرية، فإذا به (خيريت) النادل وصاحب المكان، يقف بجسده الضخم ويدعونا لنجرب نوع جديد من شراب الجنيفر، وهنا إزداد (الألم) في ركبتي بعد أن سمعتُ كلمة جنيفر، فإستجاب صاحباي وقبلا التوقف وقضاء بعض الوقت، فدخلنا المشرب، في حين توارت شمس القرية خلف حقول الذرة.
مضت السنوات وتعودت على الدراجة التي لا يمكن العيش تقريباً هنا بدونها، فهي أهم واسطة نقل في البلد، ومن أساسيات الحياة فيه، حتى أن تلاميذ المدارس الابتدائية يتعلمون في البداية ركوب الدراجة ليحصلوا على شهادة تثبت ذلك، بعدها يمكنهم المضي في الدراسة، وهذا القانون معمول به منذ خمس وثمانين سنة، وما يسهل الأمر، هو وجود شوارع خاصة للدراجات، وهي حمراء اللون وبعرض مترين، لكن الشيء الغريب الذي لم أَرَ له مثيل في العالم هو أن الهولنديين (وخاصة طلاب المدارس) يقودون دراجاتهم في أحيان كثيرة دون أن يضعوا أيديهم على المقود، كأن ترى صبياً يضع يديه في جيوبه ويقود دراجاته بمهارة وسهولة لا تصدق، حتى أني رأيت بعض الأشخاص يقودون دراجاتهم وفي ذات الوقت تنشغل أيديهم بلف السجائر، ويفعلون ذلك على مهل وبكل هدوء وسيطرة.
توجد في هولندا عشرون مليون دراجة، في حين أن عدد السكان سبعة عشر مليوناً! حيث لا يوجد طفل أو شيخ لا يمتلك دراجة واحدة على الأقل، والكل يستخدمها يومياً إبتداءً من الأطفال الصغار الى الملك والملكة مروراً برئيس الوزراء والحكومة. وهناك حكاية طريفة تعود الى الحرب العالمية الثانية، حين خسر الألمان الحرب وهرب الكثير منهم عبر الحدود الهولندية، لكن بسبب عدم وجود عربات أو سيارات تنقلهم، قاموا بسرقة آلاف الدراجات من الهولندية ليغادروا فيها الى ألمانيا، لذلك هناك قول هولندي شائع (أين دراجتي؟) يستخدمونه حتى هذه اللحظة كمماحكة ضد الألمان.
الدراجة الهوائية جزء مهم وحيوي من الثقافة الهولندية، وهناك الكثير من الأعمال التشكيلية والحكايات والأمثال الشعبية والكتب وحتى الأغاني التي تتناولها، لكن وسط كل ذلك هناك مشهدان لا يمكن أن يغادرا ذاكرة كل هولندي، وهما مشهد الأمير كلاوس (زوج الملكة بياتريكس)حين قفزت وجلست على دراجته من الخلف فتاة في الشارع أثناء أحد الإحتفالات، فأرخى أزرار قميصه ونزع ربطة عنقه وسلمها لأحد المصورين قائلاً (أرجعها لي حين أعود بعد قليل) وهو يبتسم وينطلق مع الفتاة التي لا يعرفها وسط المدينة، كذلك مشهد الممثل العظيم روتخر هاور في فيلم (الفاكهة التركية) حين قطع بدراجته شوارع امستردام المزدحة بشعره الأشقر المتطاير، وقد إستقرت خلفه حبيبته (الممثلة مونيك فان دي فَن) مع موسيقى مذهلة، في أشهر مشهد في تاريخ السينما الهولندية.