ستار كاووش
صحوت مبكراً على صوت في الخارج، ففتحت النافذة، لأرى شاحنة تنظيف الشارع وهي تطلق صوتاً إمتزج مع الماء ورغوة التنظيف التي إنبعثَ منها عطر يشبه رائحة الليمون،
تصاعد ووصل حتى حافة النافذة، لتستدير المركبة بلونها الأبيض وشكلها المربع وقد إستقرت في أسفل مقدمتها فرشتان دائريتان ضخمتان بلون أخضر، ربضتا على الشارع مثل يَدَي قط كبير، وهما تتحركان بشكل لولبي وتفركان الجادة المبلطة بحجر رمادي داكن يعود لقرون بعيدة، لتمضي بعدها، يسبقها الضوء الذي يدور في أعلى مقدمتها، وتتوارى في الشارع المقابل مخلفة ورائها رصيفاً مبتلاً تنعكس عليه أقدام المارة وكأنه مشهد من أحد أفلام كوبولا. في هذا البيت القديم الذي إستأجرته من الشاب الايطالي لورنزو، والذي ورثه عن جده كما ذكر لي، بدأتُ أيامي العشرة في مدينة فلورنسا، مركز إبداعات وفنون وعظمة ايطاليا في عصر النهضة.
إنطلقتُ في أرجاء المدينة لأطلع على معالمها وأسير في شوارعها القديمة وكأني أتابع خطوات مايكل أنجلو ودافنشي وروفائيل وغاليلو ودانتي وبوتيشيلي وفاساري والكثير العظماء الذين أنجبتهم هذه البقعة الساحرة من الأرض، هنا في هذه الشوارع والبيوت القديمة ولد عصر النهضة، وإنبثقت حضارة إيطاليا التي تركت بصمتها في كل مكان من هذا العالم. أتوقف عند مقهى صغيرة لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار وتحتوي على خمسة أو ستة كراسي فقط لأحتسي شيئاً وانطلق نحو معالم المدينة، حيث إنتشرت مئات المتاجر التي تعرض المصنوعات الجلدية الفاخرة التي تشتهر بها فلورنسا وتنوعت بتصاميمها الجميلة والغريبة والمتفردة لماركات ملابس وأحذية وقفازات وأحزمة وحقائب وقبعات تداخلت ألوانها وأشكالها وكأنها أعمالاً فنية لا يمكن المرور بها مروراً عابراً، أما المطاعم والمقاهي الصغيرة التي انتشرت طاولاتها على الأرصفة فهي من معالم المدينة واساس حيوية الحركة فيها.
أطوي خارطة المدينة بيدي وأتابع الطريق نحو ساحة الدومو تظللني كاتدرائيتها العالية ببنائها الضخم ولونها الرمادي الذي تداخلت فيه الخطوط السوداء والبيضاء، والتي تعتبر رمزاً للمدينة وعظمتها وتاريخها، حيث تأسست سنة ١٢٩٦ وإستمر بنائها مدة ١٥٠ سنة. أشق طريقي بين زحمة السائحين وأقطع شارعاً مليئاً بعطر القهوة ورائحة السباكيتي، لأصل الـى ساحة سنيوريا حيث تنتصب مجموعة من التماثيل بدت وكأنها متحف مفتوح في الهواء الطلق، ينتصب معها تمثال دافيد لمايكل أنجلو بنسخته الثانية أمام بوابة قصر فيشيو. أكمل طريقي مروراً برواق النحت الذي يفصل بين الساحة ونهر أرنو لأقف قليلاً أمام تمثال دافنشي الذي يحاذية تمثالاً عظيماً آخراً لمايكل أنجلو، بينما يفترش المساحة التي بينهما أحد رسامي الشارع وهو ينشغل برسم بورتريت لشخص عابر وتحيطه مجموعة من لوحاته الصغيرة التي تستهوي السائحين، أكمل خطواتي بين عشرات التماثيل التي تشير الى شخصيات فلورنسا المهمة، لأعبر الجسر القديم الذي بنيت على طوله من الجانبين بيوتاً صغيرة تشبه بيوت الحكايات القديمة، وهي تنعكس على صفحة الماء بلونها البني المصفر، وقد كانت هذه الدور الصغيرة في قرون مضت أماكن لبيع اللحوم، حيث ترمى فضلات القصابة في النهر، لكنها الآن أصبحت من أهم وأجمل معالم المدينة، بعد أن تحولت الى متاجر صغيرة لبيع المصوغات الذهبية. أتابع طريقي نحو الضفة الأخرى بإتجاه قصر بِيتِي الذي ظهر منتصباً فوق تلة عالية وهو يطل على حدائق بوبولي الشهيرة، لم أشغل بالي بالطابور الطويل للزائرين الذين ينتظرون الدخول لأني قد حجزت بطاقتي وأنا في هولندا تحسباً لهذا الأمر، لذا دخلت مباشرة للمتحفين الذين يضمهما القصر، حيث شمل الأول أعمالاً من عصر النهضة، والثاني كان مخصصاً لفناني القرن التاسع عشر، ويفصل بينهما صالة كبيرة ضمت أعمالاً كلاسيكية منسوجة على السجاد.
في نهاية اليوم كانت جولتي خلف الحدائق، في مكان عالٍ يطل على المدينة، وهناك إخترت طاولة في مقهى صيفي يقدم شراباً وبيتزا، وقد إستقرت على بعد مني النسخة الثالثة لتمثال دافيد العظيم. وها أنا أجد نفسي بين اشهر شيئين في أيطاليا، هما البيتزا وتمثال دافيد، تحيطني ضحكات النادلة التي إكتفت بقرط واحد في إذنها اليسرى، وقد امتزجت حركة الصينية التي تحملها بمحاذاة خصرها مع نهايات الكلمات الإيطالية المحببة. قضمتُ قطعة بيتزا ونظرت الى دافيد، وأنا أفكر بيوم غد، حيث سأذهب لرؤية النسخة الأصلية من التمثال في أكاديمية فلورنسا.