ناجح المعموري
المكان ذاكرة ، تخيلات ، سرديات ، تقشرات المكان واضحة على سطحه الخارجي . عبر الاستذكارات والتقشر مروياته تحضير لاستعادة الماضي وآثاره من أجل إيقاظ المسكوت عنه ،
نعم لأن الأمكنة قادرة على البقاء والبقاء تحدياً للأزمنة ، ويعني هذا مثول الفرد / الجماعة ، من خلال ذاكرات قديمة ، خازنة لأحلامها وتصوراتها وتقاليدها . التي لا تبتعد كثيراً عن الجماعات التي تخيلت وأسست مجتمعاً تمثيلياً .
تعمق الموقف المعرفي والثقافي ، عن هوية فؤاد وقوة الانتماء الحقيقي والشفاف للعراق على الرغم من كل ما حصل له عندما كان فيه وحتى استدعاءاته بعد هروبه للخلاص من القسوة وهيمنة السلطة لكن الوطن حاضر . هو ضميره الحقيقي الكاشف عن الرحم / الأمّ ونوعية علاقته معها ( ترك حقائبه على حافة الشارع وانساق صوت أمّه التي استقبلته بذراعين مشرعتين ضامةً إياه الى صدرها ، كانت تعصره وهو يشم روائح جسدها التي لم ينسها يوماً . رائحة الثدي الذي التقمه لثلاثة أعوام ، رائحة الثوب الذي كان يدس انفه بين طياته كي ينام . رائحة البخور والحرمل ليالي الجمعة ... رائحة دموعها وهي تبكي أمها ، التي ماتت ولم تحقق حلمها ببناء الضريح ... رائحة تعطرها لأبيهٍ بليالٍ هي تختارها / ص 408).
كانت عودته ــ فؤاد ــ ناقصة لأن حلم الأمّ لم يكتمل إلا بعودة الاثنين ، محي وفؤاد معاً : فؤاد ها أنت قد عدت فأين أخوك محيي ؟؟
انتج المكان ذاكرته ، وهي أكثر الشفويات الحاضرة ، والباقية للآبد ، ومن يأتي لاحقاً للمكان يستلم مروياته بوصفها الموروث الذي أودعه الجيل أو الأجيال الأسبق ، إنها ــ المرويات ــ ثقافة متراكمة تزداد طاقتها من خلال حضورها اليومي واستفادتها من استدعاءات قديمة ، حفظت مرورثات ، هي بعضاً من هوية ، استطاعت مقاومة كل محاولات تعطيلها وإيقاف سيرورتها بالتشاكل مع عناصر ثقافة الجماعات المعاصرة . لا شيء وجد خارج إطار اللسان ، بمعنى ارتباط الحضارة وكما قال " هيغل " اللغة هي وعي التاريخ ، والتاريخ هو الحرية واللسان منتج العلاقات والرموز ، وهما ما جعلهما الإنسان متداولات له وكماً ورد في السيمياء إن الدلالات هي شهادة على أن الإنسان يتداول العلامات لا الأشياء التي تدل عليها .
كما قال سعيد بنكراد . اللسان سلطة ابتكرت واخترعت لغتها وثقافتها إنه البيان الذي امتلك العالم وانتج التاريخ وتداوله شفاهيات باقية محتفظة بطاقتها الممنوحة لها من السلف ، وما توفر عليه من امكانات اجتما ــ ثقافية . كنا سجلنا ملاحظة متكررة عن العنصر البنائي الذي تداوله القاص القيسي وأعني به الميتا سرد باعتباره توظيفاً تاريخياً ، لأن الاجتماعي غير معزول عن التاريخ . كلاهما مندغمان وأحدهما يغذي الآخر ، واستوعبت الرواية كثيراً من الشخوص منها تحول الى مركز سردي قوي لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله بما يماثله ، واعني شخصية " عايد " الذي استجمع شبكة رمزية كبرى ، وتمظهرت عنه كل الملاحظات والاضطهادات والانحرافات ، السقوط ، النجاح الوهمي ، الشذوذ .....الخ إنه السلطة التي استعمرت ذاكرة فؤاد . واختصر القاص بعضاً مما تميزت به شخصية " عايد " هناك شخص التقيته في أحد المواضع أيام الحرب العراقية الإيرانية اسمه عايد .... وظل يطاردني في أحلامي وينغص عليَ أيامي . فتارة اضاجع امرأة بالحلم لاكتشف إني أضاجعه . وأخرى أراه وهو يعدمني والليلة كان هو من قام بدور القابلة لمعاونة أمي على ولادتي .
ظلت أخيراً المرويات وصدقها الواضح الكاشف عن بياض الهوية الوطنية مع المحافظة على التاريخ الذي سجله الأبناء وسأكتفي للإشارة لذلك بما هو مختصر : السلمون يسبح ضد التيار لهدف نبيل قد تموت الكثير من الأمهات بتلك الرحلة ، ولكن الأخريات يضعن بيضهن ، أعالي النهر ، ليولد جيل جديد تستمر به الحياة . أما انتم فتسبحون ضد التيار أملاً بكسر تلك البيوض ، وقتل الحياة . تسبحون ضد التيار ساحبين معكم مجتمعاً وبلداً بأسره الى ماضٍ تنبشون به يومياً بحثاً عما يدعم مسلماتكم // الرواية ص 415//
وظّف القاص فاضل القيسي التاريخ بذكاء ، ليس بوصفه مجموعة من الوثائق والأحداث ، التي عاشها العراق ، والكثير من الشباب فيه ، لأنه استطاع تنقية التاريخ بذكاء ، ليس بوصفه مجموعة من الوثائق والأحداث ، التي عاشها العراق ، والكثير من الشباب فيه ، لأنه استطاع تنقية التاريخ من الموجود فيه ، والذي يعني المؤرخ ، بل ذهب القيسي الى التاريخ باعتباره معنى كما قال رولان بارت ، متوافقاً مع هايدن وايت الذي تعامل مع التاريخ متجاوراً مع الأدب ، بمعنى منحه فرصة الاخضاع للتأويل والتفسير ، وكشفت بعض الدراسات الحديثة عن وقائع تاريخ قديم الى تنوعات تأويلية لا بل ذهب هايدن وايت وهارتمان الذي جعل التاريخ والفلسفة والادب قابلة للتحليل والاختلاف حول ذلك ، وما دام التاريخ منفتحاً على الفحص ، فانه متماثل مع الادب . ومثلما قال رولان بارت مقولته الشهيرة والمبكرة جداً : إن التاريخ مجموعة من الدوال . استطاع القيسي صوغ رموزه الخاصة المبتكرة وسط ترتبه وليست مستلة من الآخر ومن بعد تستعيدها لتوظف عبر رموزها وعلاماتها الخبرات المبثوثة فيها ( وتسقط من خلالها المستقبل وتفهم من خلالها الحاضر ) كما قال سعيد بنكراد .
استطاع القاص القيسي استعادة التاريخ من مكامنه القديمة . وماضيه البعيد والعميق . والاستعادة ضرورة مهمة والتاريخ مرويات ، عاشت بذاكرة الأفراد وظلت متداولة بوصفها إرثاً ممنوحاً لهم من الآباء والاجداد . إنه ــ التاريخ ــ قابل بالاستدعاء والحضور ، لكنه لا يظل ساكناً بل متحركاً بقوة المخزونات المحكية ، وهو يمثل المجال الذاتي الذي قال عنه يونغ ، إنه الفاعل في ثنائية العلاقة بين الجماعة والأسطورة وعناصر الدين والتاريخ المشحون بالأحلام والأوهام ، كما ذهب لذلك يونغ ، وبوصفها مصدر الطاقة للتكيف بالنسبة للجماعات من أجل الحصول على معارف أكثر . ولابد من التذكير بأن الأسطورة وثيقة تاريخية ، محكية أو مكتوبة ، وهي ليست مثلما كانت في بدايتها . لأنها بداية عملية معقدة ولا واعية .
تغير ما اعتاد عليه سمك السلمون ، وارتضى السباحة مع التيار
(( بطوله الفارع وقف أمام مرآة محاولاً اقتلاع شعرة استوطنت خده الأيمن بملقطٍ معدني . كان ينظر في المرآة وهو يرتدي ملابسه العسكرية وضع الملقط على الطاولة وقد استقرت بين كماشتيه شعرة سوداء ليعتمر بيريته )) تكرر هذا النص كله في ختام الرواية منذ " بطوله الفارع " وتغيرت نهايته : شعرة بيضاء ليعتمر عمامته / ص 425//
هنا حصل التحول الكبير في الثقافة ، وخسر العقل نقديته وخسر كل شيء حاز عليه من تجارب حياته وارتضى بوعي قاده نحو فضاء متغاير ، سيسلك طريق الخراب .// سلمون عراقي / رواية / روافد للنشر والتوزيع / القاهرة 2018/ فاضل عبد الله القيسي .