من أجل أن يبقى قلم الكاتب الراحل عدنان حسين حاضراً في المشهد العراقي، تعيد المدى نشر بعض "شناشيله" التي سلط من خلالها الضوء على الفساد الإداري والمالي ودافع عن قيم الدولة المدنية والعدالة الاجتماعية.
عدنان حسين
يُطلق أهل بلاد الشام على اختلاط الأشياء وضجيجها وجعجعتها، تعبيراً جميلاً، هو "همروجة"، وهو تعبير مأخوذ من أصل عربي فصيح، فالهَمْرَج في اللغة العربية هو اللّغط والاختلاط والالتباسُ .
تعبير "الهمروجة" ينطبق تماماً على الضجّة المتصاعدة أخيراً بشأن الفساد ومكافحته هنا، في العراق. رئيس الحكومة يرفع من وتيرة تصريحاته المتواصلة على مدار الساعة تقريباً، ضدّ الفساد، وتوعّداته للفاسدين بالويل والثبور، محذّراً من الحرب التي أعدّت حكومته، أو تُعدّ، لشنّها على الفساد بما يُشبه الحرب على داعش.
رئيس مجلس النواب يمشي في الأثر ويرفع صوته عالياً كما لم يرفعه من قبل. رئيس الجمهورية سائر في الموكب نفسه. الوزراء ووكلاء الوزارات والمدراء العامون جميعاً ملتحقون بالسرب ومحلّقون فيه. باختصار لم يبقَ مسؤول رفيع أو كبير في الدولة لم يلعن الفساد والفاسدين ولم يتعهّد بمكافحته واقتلاعه من الجذور، وإذ تستمع إلى الواحد منهم فإنّك تظنّنَّ كلّ الظنّ أنّ المتكلم رمز للنزاهة والشرف والضمير والعفّة... مَنْ يكون إذن الفاسدون الذين يتوعّدهم رئيس الوزراء ويلعنهم سائر مسؤولي الدولة؟
إذا أردتَ أن تُفشِلَ شيئاً (خطة، برنامجاً، مشروعاً) احكِ عنه كثيراً.. ثرثر به ليلاً نهاراً حتى يملّ الناس أيّ حديث فيه ولا يعودون يطيقون حتى مجرّد ذكره.. هذا بالضبط ما يجري الآن على صعيد الفساد ومكافحته في العراق.
العراقيّون جميعاً متأذّون غاية الأذى من الفساد الإداري والمالي.
العراقيّون جميعاً يعرفون أنَّ هذا الفساد من أكبر مقوّضات أركان الدولة والمجتمع.
العراقيون جميعاً يعرفون أن حاضرهم ومستقبلهم قد أجهز عليهما الفاسدون وسرقوهما تحت الأبصار والأسماع.
العراقيون جميعاً يُدركون تمام الإدراك أن الفساد لا يقلّ خطراً عن الإرهاب، بل إنه من حواضن الإرهاب الرئيسة.
والعراقيون يتطلّعون الى سياسة فعّالة لمكافحة الفساد تقوم بشكل خاص على البدء من أعلى. وفي الأعلى يوجد كبار المسؤولين الحكوميين والحزبيين الذين يديرون الدولة ومؤسساتها ويحرّكون آلة الفساد الجهنمية فيها.
لكنّ العراقيين جميعاً يريدون أفعالاً وليس أقوالاً.. إنهم مصابون بالتخمة من الكلام في الفساد ومكافحته، ويخيّل لهم الآن أن كل هذه الجَلَبة بشأن الفساد ومكافحته إنما هي ضحك على الذقون.. لسان حال العراقيين يقول: نسمعُ جعجعة ولا نرى طحيناً.
في مقابل ما يعرفه العراقيون جميعاً ويدركونه (أعلاه)، فإن ممّا يتعيّن أن يعرفه رئيس الوزراء وسائر أعضاء الرئاسات الثلاث والوزراء والوكلاء والمدراء أنه ينبغي أن ننتهي من هذه "الهمروجة"، فهؤلاء جميعاً يتوافرون على كلّ الوثائق والأدلة المتعلقة بالفساد والفاسدين والأمر لا يتطلب سوى تقديم هذه الوثائق والأدلة الى القضاء كيما تأخذ العدالة مجراها.
من المعيب جداً، جداً، جداً، أن تظل أكبر الرؤوس في الدولة "تهمرج" فحسب في موضوع الفساد والفاسدين.