طالب عبد العزيز
أجدُ أن الكتابة في الحياة والتغني بمفاتنها وفي المرحلة الراهنة بالذات، ضرورةٌ قصوى، ذلك لأنَّ ما يريده اعداؤها، من أحزاب السلطة هو نفينا منها،
أو إخراجنا من جنتها الواقعية الى جنتهم المتخيلة، لذا، سيكون الشعر وتكون الموسيقى واعلاء شأن قيم الجمال مادتنا ضد رصاصهم وقناصتهم وقنابر الدخان التي يحاولون إرهابنا بها، فتعالوا نقذف ذلك كله بوجوههم، فهم راحلون لا محالة.
ولأنَّ بادية سفوان توحي بالكثير، فقد أتيتها من غفلة في قبضة الطريق، أخذني صاحب فيها الى هناك، فقد كانت السماء باذخة اليوم، وبقطع بيض وزرق لم تأتها الشمس، فهي تزاور الافق البعيد، وعلى الارصفة شيءٌ من مطر عتيق. كانت الطريق تفضي الى السوق ساعة وتنسحب اخرى، لا، لم يكن الشجر، الاثلُ ليسلمنا الى سكة الحديد المهجورة، الرمل وحده اصطحبنا الى هناك.
سفوان مدخل للبصرة من الكويت، وهي مَهْربُ الناقمين على السلطات منذ الزمن الملكي، وليس في عشبها مرعى لأحد، كل ما في يد الافق من خضرة هي للابل والماعز، التي اصبحنا في الوانها، ومن واجهة الزجاج رأينا يد صاحب المطعم تلوّح الينا: الفلافل مقلية بالزيت تشبه كرات السمسم والبيض مسلوقٌ، والحساء برائحة الفلفل الأسود. لا الخبز ولا الاقداح المصطفات بعناية على الرفف، ولا ثلاثة الرجال اللذين تحت مظلة الصفيح ما يعيب المشهد، إنما الطمأنينة في البرية التي بسفوان مائلة، أتذكرُ، البرجسية خضراء.
ومن بوابته التي يدخلها الغبار، وتحتجب الشمس عنها انحنت ظهورنا قليلاً ودخلنا. الفتى النحيل، بقميصه الضامر عند الخصر، قدّم الماء لنا أولاً، هكذا مثلما يفعل المُقْرونَ البدو، في الصحارى البعيدة، على الحدود وعلى الطريق الى نجد وجبل الرشيد، ثم أنه صبَّ الزيت على البيض، ورشّ الصعتر اخضر وبريا، ثم جاء بباقة الرشاد، لم أر شبيهه من قبل، كان خشنا بعض الشيء، لعله جاء به مما لم تأكله الابل هناك، كانت يده تدير الاطباق، عارفة ما في بطوننا.
كل ما في السوق (المخيم) يسمونه سوقاً، وما هو بذلك. فالخشب هالك، والحديد صدئ، والصفيح غير المنتظم مادة السقف، باتت سوقاً في البرية العريضة هذه، التي تفصل العبدلي والجهراء عن سفوان. أبواب وشبابيك، مكائن عاطلة لا تشبه بعضها، أدوات مطابخ لا تعد، انابيب ماء من الحديد المغلون والعادي عند هذا ومن البلاستك عند ذاك، أثاث منازل مهجورة، دواليب واسرة خشب وحديد والمنيوم، ومما لا يحصى من كل شيء، مما لفظته المنازل والمؤسسات والبلدية في الكويت، هو ما يعرض في السوق البائسة هذه. يقول أحدهم: ليس كل ما السوق يأتي من الكويت، لدينا بضاعة من تركيا والمانيا ومثلها من بريطانيا، لكننا لم نصدقه، فقد كان جائعاً مثلنا.
قبل أن يلقي الغرب رداءه على الشمس، اخذنا شقيق صاحبنا الى منزله، لا يبعد عن السوق كثيراً، أجمل المنازل في سفوان ما كان في مزرعة. اهل سفوان يحبون الارض مزروعة مستوية، منزوعة الحدود. البصل والطماطم والثوم والبطيخ وكل ما تنبت الارض من البقل والفوم والقثاء هناك أجمل أجمل.