ستار كاووش
إنتقلتُ الى بيت جديد، وهذا ما تطلب مني البحث عن طبيب أسنان آخر، وحين عرفت رينا بذلك، والتي تربطني بها صداقة بسيطة قالت (لا تنشغل بالأمر، فصديقي كارل طبيب أسنان، وسنذهب اليه سوية اليوم، لتتعرف عليه وتسجل في عيادته)،
هكذا بدأت معرفتي بصديقي كارل، الذي كان أيضاً عازف تشلو محترف، يعزف مع فرقة سيمفونية. توطدت العلاقة وصارت هناك زيارات عديدة لم يتوقف فيها عن الحديث بدراية وإعجاب حول لوحاتي، حتـى باتَ واحداً من أعظم أصدقائي. فاجئني كارل ذات يوم وهو ينزل من سلم مرسمي الذي يقع في الطابق الثاني، مشيراً الى خمس لوحات معلقة على الجدار المحاذي للسلم، قائلاً (ما أجمل هذا الأزرق، كم ثمن هذه اللوحات ياستار؟ أعتقد بأنها ستجعلني سعيداً وأنا أتطلع اليها كل صباح) اعتقدتُ أن كارل كان يحاول فقط أن يعبر عن إعجابه، لكنه فاجئني بتسديد ثمن الأعمال مباشرة، وهكذا بدأت المجموعة التي لديه من لوحاتي.
وبما أني كنتُ قد قررت في هولندا منذ البداية، الامتناع عن الحصول على المساعدات التي تمنحها الدولة، وأتكفل بمتطلبات حياتي من خلال الرسم، لذلك كنت في وقت ما، أمر بضائقة مالية، وهناك الكثير من المستحقات والتفاصيل التي يجب عليَّ تسديدها، وهنا إنبثق كارل أمامي كشهاب وهو يدخل المرسم، وبعد إحتساء القهوة توقف أمام سلسلة لوحات جديدة تتكون من ستة عشر عملاً صغيراً قائلاً (أريد ان اقتني هذه المجموعة)، تنفست الصعداء، لكني تجلدت إزاء إنطباعي الأول، قائلاً له: لكنها ست عشرة لوحة ياكارل! فأكمل ضاحكاً (وأنا لديًّ مكان مناسب لها). وهكذا مع مرور الأيام، كلما أمر بضائقة مالية أرى كارل ماثلاً أمامي مثل زوربا وهو يتفحص لوحاتي الجديدة ومبدياً عشقه الأبدي للتركواز، حتـى تكاثرت مجموعة لوحاتي التي لديه وبلغت أربعين لوحة مختلفة الحجوم والتفاصيل والتقنيات. نعم لقد أعانني بقصد أو عفوية على العيش سنوات طويلة وهو يسدد لي مبالغ من المال أزاء اللوحات. وفي كل مرة أزوره في البيت يباغتني ضاحكاً بقوله (مرحباً بك في متحف كاووش) ليصحبني بجولة في أنحاء المنزل، ثم يسحبني الى الطابق الثاني كي يُريني كيف غَيَّرَ أو عَدَّلَ أماكن بعض اللوحات، حتـى غرفة النوم يفتحها لي ويشير بأصابعه النحيلة نحو لوحات العشاق التي أخذت مكانها فوق السرير.
في كل مرة كان كارل يظهر في الوقت المناسب، حتى أني كنت أدعو مجموعة من الأصدقاء في بيتي ذات مساء، ووسط أحاديثهم وضجيجهم كنت أحاول أن أقول كلمة ترحيبية دون جدوى، ليخرج كارل صافرة من جيبه فجأة (لا اعرف من أين أتى بها) ويطلقُ صفيراً عالياً، لينتبه الجميع ويتسنى لي مخاطبتهم وسط نظرات كارل المليئة بالفخر والبراءة معاً. حتى عندما يحين موعد فحص الأسنان وأذهب لعيادته، فهو يحرص على أن يجعل الوقت الذي يلي زيارتي شاغراً ليتسنى لنا البقاء معاً بعض الوقت للحديث وشرب القهوة.
ذات مرة نظر كارل نحوي قائلاً (ستار، أتمنى أن ترسم لي بورتريت) فـأجبته مازحاً وأنا أمسك قدح النبيذ الذي قدمه لي: شرط أن أرسمك كعازف تشلو وليس طبيب أسنان. فأجابني ضاحكاً (هذا أكيد، فأنت تعرف بأني أعتبر نفسي موسيقياً قبل أن أكون طبيباً). وهكذا رسمت له بورتريت أعتقد بـأني وضعت فيه روحيته المنفتحة البسيطة وتواضعه المحبب الى النفس، وهو يأخذ وضعيته كعازف يمسك آلة التشلو مبتسماً وينظر الى البعيد كالعادة، بينما تطير خلفه فراشة بيضاء وتحط على السياج المحاذي له كرمز لحبيبته رينا.
وبما ان كارل تعود أصوله الى المستعمرة الهولندية سورينام، فهو يسافر غالباً الى هناك ويعود محملاً بأخبار الفنانين وحاملاً لي معه مجاميع من كتبهم كهدايا، وبعضها تحمل توقيعاتهم لي كتحية من بعيد.
في المرة الأخيرة التي زرته فيها بدا حزيناً وهو يقول (ستار... لقد تركتني رينا، ذهبت ولن تعود) صدمني الخبر وواسيته وأنا أنظر الى البورتريت وقد توقفت عيناي عند الفراشة التي تطير خلفه في اللوحة كإشارة رمزية لرينا، بينما يستغرق هو في عزف الموسيقى، انتبه لذلك، وبعينين ملتمعتين أدار وجهه صوب البورتريت، وأجال بنظره على التفاصيل، ليثبت بصره على الفراشة وكأنه يريد الاحتفاظ بها الى الأبد.