لطفية الدليمي
تتحول الفكرة أحياناً من مألوف واقعها إلى صورة نقيضها، كأن يفكر أحد ما بأن معارك الحرية والثورات عبر التاريخ البشري لم تكن لتحدث بدون وجود نمط دموي وعنيف من الطغاة والدكتاتوريين
، أولئك الذين يذلون شعوبهم ويستولون على موارد الدولة ويسلبون الناس حرياتهم ويضيقون عليهم سبل العيش.وكأن شرط حصول التطور الانساني عبرتاريخ البشرية المديد رهن بظهور السلالات الدموية الحاكمة والتنظيمات العقائدية المتطرفة المجبولة على كراهية الجنس البشري التي تدفع بالجماعات البشرية المستهدفة إلى المقاومة وتقديم التضحيات لنيل حريتهم وتطوير أوطانهم.
تثبت لنا وقائع التاريخ أن أي خروج للمطالبة بالحرية والثورة على الحكام لايحدث إلا بوجود شرطه المنطقي وسبب انبثاقه وهو تعاظم الاستبداد وتردي أحوال المجتمع على الصُعُد كلها؛ إذ يرفع الحكم المستبد منسوب الوعي لدى الجماهير المقموعة التي حرمها جشع الحكام من أبسط حقوق العيش، فلا يستسلم الحاكم بل يبالغ في عنفه الذي يبلغ حد إبادة الثوار ليحتفظ هو وشركاء منظومته بما استولوا عليه من ثروات البلاد ومقدرات أهلها.
يرى البعض - وبتسليم شبه نهائي - بأن الثورة من أجل الحرية هي التي تنسج رداء الحكاية التاريخية وهي التي تقترح الصيغ الأفضل لتطور الحياة الإنسانية، ولعل هذا هو الجزء الأساس المرئي من الحكاية التي تصوغ حبكة التاريخ. لايتردد الفيلسوف ( إميل سيوران ) في إخبارنا بمقولة مغايرة في كتابه ( تاريخ ويوتوبيا ) إذ يقول ( أرى أن الطغاة - وإن كنت أمقتهم - هم الذين يصنعون نسيج التاريخ ) فهو لايفتأ يؤكد في طروحاته أن كل مايحرك التاريخ البشري هو الشر الكامن في أعماق النفس البشرية، فشرور الطغاة توقظ لديهم شهوة القتل والاغتصاب للحفاظ على السلطة ومغانمها،غير أن ردة فعل المظلومين تتباين من جيل لآخر، إذ يعجز البعض عن المقاومة فيمارسون جلد الذات ولوم ضعفهم وتقاعسهم عن تغيير واقعهم المريروإنقاذ أنفسهم،متعللين بالحفاظ على مالديهم من جانب، واعتيادهم واقعا معينا يمكنهم التعامل معه ،ومن جانب آخر يخشون من تغيير تنفلت معه الأمورمما يضيف مخاطرجديدة، فنراهم يزينون لأنفسهم القبول بالخراب المألوف تجنبا لخراب مجهول،وهم من استنفدت قواهم كوارث أزمنة الإنقلابات والطغيان والحروب وبالمقابل نجد الفئات الأحدث عمرا أشد قدرة على إيقاد جذوة الثورة وإعلان الرفض فهي لاتملك من مقومات الحياة الكريمة ماتخشى خسرانه في تمردها المشروع ،فتتصدى للواقع الشرس وهي تدرك مخاطر نهوضها وانتهاكها للحدود التي رسمتها السلطة المتجبرة.
تلجأ السلطة الفاسدة لتضمن استمرارها، إلى استخدام قوة الرعب ضد أية ثورة أو احتجاج شعبي؛ فلا تتردد في ممارسة القسوة والعنف إزاء أي فردٍ معترض على فسادها،وتصاب بالسعاروهي تسفك دماء الشباب المحتجين من غير رادع أخلاقي أو قانوني، وكلما تفاقمت حالة الرفض الثوري لها، إزداد جنون الشرالمنبثق من العمى السياسي القائم على خرافة امتلاكها الحق التاريخي الموروث لحكم البلاد.
يحدث خلال تعامل السلطة العنيف ضد معارضيها، تصادم إرادات بين الأجيال المختلفة فتظهرخلافات هامشية بين الثوارالتواقين إلى اجتراح يوتوبياهم الخاصة وبين الأجيال الأخرى المساندة لهم، وهو أمر طبيعي ينشأ عن اختلاف الوسائل مع توافق أكيد على الأهداف الأبعد، وقد تتعارض بعض الأفكارحين يؤكد الثوار الطهرانيون بإمكانية تطبيق نظام يوتوبي يحقق العدالة والمساواة حال انهيار السلطة، متغاضين عن معضلة التطورالتاريخي وأهمية توفر عناصر أساسية اقتصادية وتنظيمية وسياسية مما يجعل تطبيق اليوتوبيا بانعدام تلك الشروط والأساسيات أمراً في عداد المستحيل، ففكرة اليوتوبيا ليست سوى أطروحة فلسفية متخيلة لن تصمد أبداً لدى اختبارها على أرض الواقع البشري .