د. فالح الحمـراني
إن دينامية الأحداث تظهر لنا عمق أزمة النظام السياسي في العراق والتي تكشف لحد الآن عن عجزه في بلورة رد فعال وحيوي على التوتر الداخلي وفي المجال الاقتصادي.
إن الحكومات التي تشكلت في العراق منذ 2003 كانت مدعوة لإقامة إدارة فعالة وليس الانشغال في مهام تلبي حاجة الكتل المتصارعة على المال والنفوذ.
إن الأزمة تعود الى أنه بالرغم من أن الإطاحة بالدكتاتورية في العراق أعطت الحافز لتحرك شعوب المنطقة للإطاحة بالأنظمة المستبدة في بلدانهم في حركة تاريخية عاصفة اطلق عليها عام 2011" الربيع العربي"، إلا أن من " صدف التاريخ" أو " منطقه اللامعقول أحياناً" تم إسقاط النظام الديكتاتوري، الذي تطلعت له شرائح واسعة من كافة سكان العراق وكافحت بسبيله وقدمت الضحايا النبيلة من أجل تحقيقه، تم على يد أجنبية، اختلقت بعد انهياره نظاماً سياسياً لا يلبي طموحات الشعب العراقي منذ تأسيس دولته الجديدة في بداية القرن العشرين. نظاماً تنخره باستدامة سوسة الأزمة. ممسوخ منذ ولادته.
بيد أن الشعب العراقي يهب مرة أخرى ليصحح مسار التاريخ، ويكافح من أجل إرساء نظام سياسي معافى، يتسق مع آماله وطموحاته في بناء "وطن" يحتضن كل القوميات والأديان على أساس المساواة والعدل وتأمين الحياة الكريمة والأمن للجميع. وطن خيراته تذهب للجميع، وليس لعوائل مهما كانت مسمياتها وأصولها، أو للبطانات والدوائر التي تلتف حولها. وطن ذو قاعدة اقتصادية متينة وحريات مضمونة، وبنية تحتية متطورة توفر الخدمات بما فيه في مجالات الصحة والتعليم بمستويات عالية والكهرباء من دون انقطاع وماء صالح للشرب في نهاية المطاف هو أرض الرافدين. من دون ريب إن العراق بثرواته الطبيعية والبشرية قادر على تحقيق هذه الأهداف. لكن النخبة الحاكمة في العراق تحاول انعاش النظام بإصلاحات مجزأة بعيدة عن تلبية مطالب المحتجين.
لقد فرض الشعب إرادته وغير مسار التاريخ وأرغم عادل عبد المهدي على الاستقالة لأنه وحكومته افتقد الدعم الاجتماعي الواسع لها، ولم يتمتع بمواصفات الشخصية القوية على رأسها، ولم يتحول الى اللولب الذي يلتف حوله المجتمع، مما جعل القوى التي جاءت به تنفض اليد عنه، بل وتشرذمها والنظام ككل، أيضاً. ومن المطلوب أن يتبعها تغير هيكلها المتناقض داخلياً، والقائم على تعايش ممثلي الكتل والأحزاب المتنافرة
إن الاحتجاجات أصبحت تقييماً ملموساً على حالة النظام الذي تكون بعد انهيار الديكتاتورية ، كونه نظاماً يعاني من الأزمة المستدامة. لقد صاحب الضعف هذا النظام السياسي، ومن بين أسباب أخرى ان العناصر التي مسكت السلطة بقبضتها غير كفوءة ولا مؤهلة لإدارة الدولة، ولا تمتلك الخبرة الكافية في الإدارة فما بالك في الأوضاع الاستثنائية التي مرّت بها البلاد، إنهم ساسة فاشلون، والغريب إنهم لحد الآن يسعون للعودة الى الحكم، رغم أن الشعب والتاريخ قال كلمته فيهم، وربما تنتظرهم في المستقبل المساءلات والمحاكم على تفريطهم بثروات الدولة وإهمالهم صيانة أمنه، ومسؤوليتهم عن الضحايا المدنيين والعسكريين، وتفريطهم بحقوق الأقليات والإنسان عموماً، أي خيانة أحكام الدستور.
إن الضعف المتأصل في النظام السياسي العراقي مكن الجهات المستقلة عن الدولة بتجميع رأس المال السياسي والاقتصادي والرافعة العسكرية بسهولة أكبر. إن الشلل الدائم، الذي جعل الدولة غير قادرة على القيام برد فعل فعال على المشاكل الأمنية، دفع الى ظهور مؤسسات السلطة البديلة: الميليشيات وجماعات المجتمع المدني المشكوك بطينتها، والمنظمات الطائفية والدينية. هذا أحد الأسباب وراء وجود العديد من الهياكل في ميليشيات الميليشيات غير النظامية في البلد لسد الفجوات الأمنية فيه، حيث لم تصل القوات المسلحة الوطنية بعد إلى إمكانات كبيرة. وأحد القضايا الرئيسة للاحتجاجات الحالية هو التنديد بأنشطة الدول المجاورة للتلاعب بالنظام السياسي العراقي . وتعد إيران موضوعاً واضحاً للانتقاد في البلد، لكن دول المنطقة الأخرى، بما في ذلك دول الخليج العربي وتركيا ، لديها أيضاً نقاط دعم سياسية واقتصادية هناك.
إن الخروج من الأزمة السياسية يتطلب وجود حكومة تتصف بالنزاهة والمهنية والخبرة الرفيعة، لكن الصعوبة في ظل الظروف التي تشكلت من الصعوبة أيجاد مثل هذه الحكومة تكمن في أن تشكيلها يتم ووفقا لأحكام الدستور، لذلك سيخضع للكتل البرلمانية، التي اعتادت على توزيع حقائبها بين جماعتها، بغض النظر عن الكفاءة والأهلية والخبرة لهذا الوزير أو ذاك، المهم أن يكون من جماعة هذه الكتلة أو تلك، وربما يكون قد تعهد بالإيفاء للكتلة التي اختارته، ببعض الالتزامات ( الله يعرف ما هي) حتى ينال هذه الحقيبة. هذا الأسلوب كان السبب الرئيس في شلل الحكومة وفشلها في أداء دورها. لقد تعاقبت عدة وزارات على العراق منذ 2003 ولكن الحكومات لم تنجح في بناء بنية تحتية فعالة للبلاد، ولم تبنِ قاعدة اقتصادية تعتمد على الإنتاج، ولا تنويع موارد الاقتصاد، بل لم تضع البرامج الكفيلة بإنعاش اقتصاد البلاد، وانتهجت ابسط الطرق القائم على الاعتماد على موارد النفط وبعض الروافد الأخرى التي ليس لها شأن كبير، لرفد موازنة الدولة، التي توزع بشكل غير عادل وعلى وفق الحالة السياسية، فضلاً عن الكثير من أموالها تذهب الى جيوب القريبين منها، وبالتالي للكتل التي انتدبت ممثليها في هياكل الدول. ربما يتطلب تحسين الوضع من هذه الزاوية أجراء تغير في الدستور في مادة رئيس الوزراء، وجعل إشغاله من خلال التصويت العام المباشر، وبالتالي منحه تفويض اختيار وزراء حكومته لموافقة رئيس الدولة، وليس البرلمان، وبعكسه ستلعب الكتل لعبتها غير النزيه وفرض عناصرها على الحكومة. بمعنى توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية.
إن الشعب يطالب اليوم ببرلمان من الأخصائيين والمتدربين وأصحاب الخبرة، وليس من نصف المتعلمين الذين لم يتقنوا غير الشغب والفضائح والصراخ في قاعة الجلسات والمؤتمرات الصحفية وفي الفضائيات. برلمان يتكون من الحقوقيين وخبراء الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والمهندسين والفنانين والأدباء، الذين تؤهلهم قدراتهم المهنية على سن القوانين التي يمكن أن تتجسد وتنظم حياة الدولة والمجتمع. برلمان غير مسيس بل يسهر على سن القوانين المنشودة. وطن لا يكتفي بالإصلاحات السياسية فقط، وإنما الاجتماعية أيضا. ان البرلمانات المسيسة كانت دائما، وفي أي دولة مصدر لإثارة التوتر. لقد هُمشت أدوار البرلمانات في عالمنا المعاصر وكما تقول خبيرة علم الدستور بروفيسور جامعة "معهد العلاقات الدولية" في موسكو مارينا سبروفنا في كتابها "التحولات الدستورية في العراق: " في الوقت الراهن وفي ضوء تعقد الحياة المعاصرة والمؤسسة الإعلامية وزيادة مطالب عمليات الإدارة وتوسيع دور السلطة التنفيذية التي تصاحبها ضرورة استخدام واسع للوسائل الفنية وتقنيات الحاسوب في عمليات الإدارة، فان أهمية البرلمان في إدارة المجتمع تتقلص تدريجياً، وفي ضوء ذلك، استحدث في العلم الغربي نظرية "البرلمان العقلاني" الذي يطبق عمليا في عدد من الدول المعاصرة. وتبقي هذه النظرية للبرلمانيين كلمة البت في القضايا المبدئية كحقوق الإنسان والحفاظ على البيئة المحيطة... الخ وتنظر بتحجيم دورهم، ونقل بعض الصلاحيات التشريعية للسلطة التنفيذية، رغم ان وثائق هذه السلطة لا تسمى قوانين".
إن طبيعة النظام الطائفي أيضاً السبب وراء ظهور نفس الأسماء باستمرار التي تتناوب إشغال المناصب القيادية مثل رئيس الوزراء؛ والبحث عن مرشحين بتوافق الآراء التي ترضي جميع مجموعات المصالح والنفوذ. وعلى الرغم من أنه من غير المحتمل إجراء إصلاحات سياسية سريعة في البلاد، إلا أن نطاق حركات الاحتجاج يضمن أن يكون لها تأثير. ومن المحتمل أن تتبع الأحداث المستقبلية مساراً واحداً أو أكثر من المسارات التالية: الإصلاح الانتخابي البطيء أو إشغال التكنوقراط الحقائب المفصلية في الحكومة.