لطفية الدليمي
ربما كانت واحدة من الإبتلاءات الكثيرة التي يُبتَلى بها الرازحون تحت سطوة أنظمة شمولية لفترات طويلة تكمن في حالة التوتر والتشنج الذهني الذي غالباً ما ينتهي إلى مآس عظيمة ،
ومما يفاقم هذه الحالة العصيبة الفقر البصري والبؤس الفكري الملازمان لحالة الركود التي تطبع المجتمعات المنكودة بهذه النظم البائسة التي تسبب لأفرادها إعاقات ذهنية مؤذية . تتمظهر هذه الإعاقات في ظواهر محددة ، لعل من أبرزها التشبث الصارخ بالقناعات التي يعتنقها المرء و يرفعها الى مصاف المعبود الآيديولوجي ويدافع عنها بلغة تكاد تكون أشبه بالبلاغات الحربية التي لطالما صدعت رؤوسنا من قبل ( لغة الخطوط الحُمر وتيجان الرؤوس مثالاً عراقياً ! ) . وتُفهَم هذه الحالة غالباً بكونها آلية دفاعية يسعى إليها الفرد المسحوق لإضفاء معنى - من شكل ما - على حياته وإبعاد إحساسه الطاغي بالدونية والإنسحاق في دوامة صراعاته اليومية المستعصية على أي حل ، ومن يتابع صفحات التواصل الإجتماعي مثلاً ( الفيسبوك ) سيجد الكثير من أمثلة هذه المناكفات السقيمة التي تقترب من درجة الصفاقة وانعدام اللياقة في تناول الفكرة وعرضها ، وبخاصة إذا كان الموضوع المعنيّ يمسُّ مادة دينية أو فقهية ممّا يمكن تحميلها الكثير من الأسطرة السائدة لكونها الميدان المناسب لتفريغ شحنات الغضب الإنفعالية لدى الجموع التي تستهويها الأفكار اللامفضية إلى حراك منتج.
قيل الكثير - مثلما كُتِب الكثير - بشأن هذه الخصيصة الراديكالية التي تطبع الروح العراقية ؛ فهي روح ثورية في طبيعتها لأسباب كثيرة لسنا هنا في معرض تقديم أطروحة متخصصة عنها ؛ لكن ثوريتها تتوغّل كثيراً في مديات بعيدة تجعلها في نهاية الأمر مادة ثورية مؤذية لكونها تميل لتدمير كل شيء من غير تفكّر أو إنضاج للأفكار . صحيحٌ أنّ المعاناة القاسية التي كابدها العراقيون تحت وطأة نظم شمولية جعلت منهم كائنات لاتعرف الإسترخاء العقلي أو السايكولوجي ، وصحيحٌ أيضا أنّ الروح المسترخية الهادئة لن تنجح في إزاحة الحكّام ذوي النزعات الإجرامية التي لاعلاج يجدي معها سوى البتر الثوري ؛ لكننا نتحدّث عن ( ماذا بعد إقتلاع جذور هؤلاء المجرمين ؟ ) ، نتحدث عن المشهد الذي نريد رؤيته ونسعى لخلقه بعد تنظيف المشهد من هذه المخلوقات الطفيلية القبيحة التي ولغت بدماء العراقيين .
كثيرة هي الصور الجميلة - رغم المرارات الهائلة - التي جاءت بها الثورة العراقية التشرينية المباركة ، وسيُكتبُ الكثير في قادمات الأيام عن تلك الصور بعد أن تختمر وتصبح مطواعة للتناول الأكاديمي والجماهيري والإبداعي، وأحسبُ أنّ سقوط كلّ أشكال ( المقدّس ) الجمعي - باستثناء الوطنية العراقية - هي الحصيلة الأسمى التي تستحق لوحدها كلّ الأثمان الباهظة من الدم العراقي الطهور ؛ إنما لابدّ من القول أنّ الروح الثورية الراديكالية التي تغذيها إندفاعة الشباب وطهرانيتهم النقية هي الروح السائدة في المشهد العراقي ، وقد أضافت السلطة السياسية والعسكرية الغبية فوق هذه الروح وزادت في جرعتها (الراديكالية) بسبب الإمعان في جرائم القتل . المعادلة هنا بسيطة واضحة : كلّما أمعنتَ في القتل فإنك تعمل على تأجيج التشدد الثوري الذي يغذيه حسّ طهراني ، وهنا تكمن المعضلة التي ستظهر حتماً في مراحل لاحقة .
الراديكالية الثورية المفعمة بالحسّ الطهراني مطلوبة للتعامل مع المجرمين ؛ لكنّ العقل المسترخي الهادئ الذي يستمع ويحاور مطلوب بعد غياب المجرمين . تلك مهمّة شاقة بالتأكيد ؛ لكنها صفحة مكمّلة لنجاح الثورة والثأر ( الهادئ ) لدماء الشهداء .