د.قاسم حسين صالح
تناولت الحلقة الأولى تحليلاً لسيكولوجية الجماهير في الانتفاضات وشخصّت ما انفردت به انتفاضة الفاتح من تشرين/اكتوبر2019 وانتهت بتنظير سيكولوجي جديد يضيف ويصحح ما قدمه غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجية الجماهير).
في هذه الحلقة نستعرض ونحلل آراء أكاديميين ومثقفين وإعلاميين وسياسيين ومشاركين في تظاهرات تشرين في استطلاع تضمن ثلاثة اسئلة:
1. ما الأسباب التي دعت الى قيام انتفاضة تشرين /اكتوبر 2019 بعد 16 سنة من استفراد أحزاب الإسلام السياسي بالسلطة والثروة؟
2. ما الجوانب الايجابية فيها؟ وما سلبياتها ؟
3. هل ترى أنها ستحقق أهدافها؟ وإن لم تحققها ما الذي سيحصل؟
تصنيف الأسباب
تتعدد أسباب حدوث الثورات والانتفاضات عبر التاريخ،مضاف لها عامل سيكولوجي يؤدي الى التصعيد،هو التفاعل الايجابي(التوليدي) بين هذه الأسباب،وهذا ما حصل في انتفاضة تشرين..وفي أدناه تصنيف لها مرتب بحسب تكراراتها في إجابات عيّنة الدراسة (537 فرداً) وعلى النحو الآتي:
1. اقتصاد وخدمات
- تفشي البطالة وسوء الخدمات لاسيما البنى التحتية في العاصمة ومراكز المحافظات
- إهمال المصانع والاعتماد على الاستيراد
- سرقة المال وتحويله الى الخارج
- الاستيلاء على عقارات الدولة وامتلاك مسؤولين قصوراً ومناطق مغلقة بعد أن كانوا لا يملكون مئة متر مربع
- رواتب خيالية وامتيازات للطبقة السياسية وترك الشعب يتضور جوعاً.
2. فساد مالي وإداري
- انتشار الفساد في جميع مؤسسات الدولة،وإطلاع الشعب على بعضها كالعقود الوهمية
- الأحزاب لها الوظائف والرواتب حتى بدون عمل
- تضخّم ثروات المسؤولين ولعب ابنائهم بالملايين بعد أن كانوا متسولين
3.اجتماعية ونفسية
- تضاعف حالات الانتحار بين الشباب وتزايد حالات الطلاق والتفكك الأسري
- شعور العراقي بالذل الذي استفز الوعي الجمعي بأعماق الذاكرة العراقية بأنه عزيز وأنفة
- أفق مسدود وإحباط أغلبية مسحوقة ومطحونة وسرقة أحلام الشباب
- الشعور بالاغتراب والإحساس بعدم الانتماء للوطن.
4. سوء إدارة
- تجاهل الحكومة لاعتصامات حملة الشهادات العليا ورش الماء الحار عليهم
- امتناع الحكومات المتعاقبة عن تقديم برامج لصالح الشعب والانشغال بتقاسم خيرات البلاد الوفيرة بين السلطات الثلاث
- عدم القيام بمعالجات آنية ووضع خطط علمية لتأمين مستقبل واعد للشباب.
5. تربية وتعليم
- كثرة المدارس والجامعات الاهلية التي أثقلت كاهل الأهالي
- تدهور التعليم في المدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد والجامعات،وتولي المناصب الإدارية فيها أشخاص ينتمون لأحزاب السلطة ولا يمتلكون الخبرة والكفاءة.
6. فكر ووعي
- زيادة وعي الشباب الذي جعلهم ينفرون من الطائفية والانفجارات والدم
- هيمنة أحزاب إسلامية متخلّفة لا تنسجم رؤاها مع تطلعات شباب بعقليات منفتحة.
7. عدالة وقضاء
- انتهاك سيادة القانون وعدم تطبيقه على المتنفذين بالسلطة لاسيما الفاسدين
- فساد بعض القضاة المحسوبين على أحزاب السلطة،وخوف آخرين بفعل تعرّض عدد منهم الى الاعتداء والقتل والتهديد بالتصفية.
8. تدخل خارجي
- تشجيع بعض الدول الإقليمية للمتظاهرين وتزويدهم بالمال والسلاح لأهداف سياسية.
- زيارة السيد عادل عبد المهدي للصين التي اغاضت اميركا،وفتح المعبر بين العراق وسوريا ما يوحي بالهلال الشيعي تبعا لأميركا واسرائيل
في ضوء ذلك، تؤكد نتائج الاستطلاع أن أسباب انتفاضة تشرين شملت مجالات حياة العراقيين كافة بأسوأ حالاتها،وإنها استمرت لست عشرة سنة في حال تنطبق عليه مقولة (الظلم إذا دام..دمّر)..وإن حكومات ما بعد التغيير(2003) التي كانت جميعها بهوية شيعية هي الأفشل والأفسد في تاريخ العراق السياسي..إليكم بالنص وصف المستجيبين لقيادات أحزاب الأسلام السياسي التي استلمت السلطة:
(قتلة،أنانيون،ليس لديهم انتماء للوطن ولا حب للشعب،لا يمتلكون الكرامة..جبن خنوع تبعية مذّلة،سلطة تعتقد أن الوطن ملك صرف لهم،تعبث تقتل وتغض البصر عمن يقتل ويعتدي بقسوة حتى على الفتيات،يقتلون جياعاً يطالبون بحياة حرة في وطنهم المستباح،حكومة خائنة للوطن والشعب،فقدانهم الثقة بانفسهم،يعتقدون أن الشعب راح يسحلهم،سلطة تعتبر نفسها أن لها الحق بقتل من يعارضها).
مؤشرات سيكولوجية:
تتحدد أهم الأسباب السيكولوجية التي أوصلت الحال الى انتفاضة تشرين بالآتي:
• إن الأشخاص الذين استلموا السلطة بعد (2003) اعتبروا أنفسهم أنهم ضحايا النظام الدكتاتوري،وإن لهم الأحقية في الاستفراد بالسلطة والثروة معتبرين ملايين العراقيين في الداخل إما موالين لنظام الطاغية أو خانعين لا مشروعية لهم بحقوق المواطنة،فعاشوا برفاهية على حساب سبعة ملايين أوصلوهم تحت خط الفقر،واذلوهم..مع أن عائدات النفط بلغت تريليون دولار(الف مليار دولار)! تكفي لبناء دولة خرجت من حرب كارثية.
• نجم عن هذه التفاعلات السيكولوجية (تضخم أنا) و(غطرسة) أسهمت في تحويل الحاكم السياسي الى مستبد..ومنها تولّدت لدى حكّام السلطة وقادة أحزاب الإسلام السياسي قناعة بأنهم استعبدوا الناس روحياً،وإنهم في حوارهم الداخلي يقولون لهم:تتظاهرون ضدنا،ترفوضننا،تشتموننا،تتهموننا بأننا نتحدث بالعدل ونحكمكم بالظلم،ونتباهى بالأمانة ونمارس الخيانة..فانكم ستبقون تنتخبوننا لأننا سادتكم وقدركم المحتوم ولا إرادة لكم حتى لو سقناكم الى جهنم،ولا تملكون من وسائل الهرب سوى انكم تغادرون حزبنا هذا الى حزبنا الآخر!.
• إن تقاسم مؤسسات الدولة بين أحزاب الإسلام السياسي ورؤساء الكتل والفصائل المسلحة،وتحويلهم العراق الى بلد طارد للإبداع والكفاءات،نجم عنه شعور الملايين بالحرمان من حقهم المشروع بالوطن،فوصلوا بعد تظاهرات استمرت من شباط 2011 الى آب 2018 الى الانفجار بحتمية سيكولوجية – اجتماعية ناجمة عن رفاهية خيالية لقلّة وفقر قاس لملايين،وفجوة فكرية وهوة عميقة بين حكّام بعقل سياسي مأزوم..منغلق..مسكون بالماضي،وعقل شبابي منفتح متطلع الى المستقبل، وإنهما بهذا الحال..جبلان لا يلتقيان!
ايجابيات انتفاضة تشرين وسلبياتها:
تتحدد أهم ايجابياتها بالآتي:
• إحياء الشعور بالانتماء للعراق بشعارها (أريد وطن)،وإعادة الهوية الوطنية التي تراجعت بسبب الطائفية والمحاصصة التي أشاعت هويات فرعية قاتلة.
• إحياء الشعور عند المواطن بأن الوطن للجميع بشعارها (نازل آخذ حقي)
• كسر حاجز الخوف من السلطة،وإنها قالت للحكومة والأحزاب(قف هنالك شعب عراقي وليس العراق لكم وحدكم) وإشاعة روح التحدي ضد حكومة وصفت رئيسها بأنه قاتل.
• فضح عمالة وخيانة وضعف وجبن المسؤولين الرئيسين في الدولة العراقية
• فضح تدخل دول الجوار بالشأن العراقي.
• إحياء قيم أخلاقية أصيلة استهدفتها حكومات التغيير بتحويلها الفساد من فعل كان يعد خزياً الى شطارة.
• شعور جيل الكبار من العراقيين بالفخر أن لديهم جيل شباب يمثل( رفعة راس) بتعبيرهم،وإنهم بامكانهم بناء عراق يوفر الكرامة لأهله ويعيد اعتباره عربياً ودولياً.
وتتحدد أبرز سلبياتها بالآتي:
• استشهاد مئات الشباب وجرح أكثر من عشرين ألفا.
• تأخر الاقتصاد والدراسة،سرقة ممتلكات عامة وخاصة،تخريب مباني حكومية وأهلية، وتلوث بيئي.
• عدم وجود قيادة موحدة لها.
• إشاعة الفوضى وانقسامات بين الناس بين مؤيد ورافض لها.
• إثارة العداء بين المتظاهرين وأفراد القوى الأمنية مع أن بين أكثرهم صلات قربى وصداقات.
ما الذي سيحدث:
انقسم المستجيبون بين من رأى أن التظاهرات ستحقق أهدافها في استعادة وطن،وبين من توقع أن الفوضى ستعم العراق وستحصل تدخلات خارجية تؤدي بالنتيجة إما الى التقسيم أو وضع العراق تحت الفصل السابع.
ونرى أن العامل السيكولوجي له الدور الرئيس في حسم الموقف بين قوتين:أحزاب الإسلام السياسي الشيعي والمتظاهرين..الأولى تمتلك السلاح والقوى الأمنية وفصائل مسلحة يدفعها انكسارها النفسي وسقوط اعتبارها الأخلاقي الى التمسك بالسلطة وممارسة أساليب التودد الظاهري والوعود بتحقيق إصلاحات وبث مندسين بين المتظاهرين للقيام باعمال تخريب واختطاف نشطاء،وقتل متعمد في مجازر آخرها،بعد الناصرية والنجف،قيام ملثمين مساء الخميس (6/12/2019) يستقلون سيارات دفع رباعي بقتل 29 متظاهراً في محلة السنك والخلاني..ما يعني أن هذه الأحزاب ستستميت من أجل البقاء في السلطة.
أما المتظاهرون فانهم يمتازون بالأصرار على مواصلة المشوار في تصعيد سيكولوجي بمشاركة العشائر في تظاهراتهم،وتأييد المرجعية والأمم المتحدة ومواطني المحافظات الغربية..ما يعني أن فرصة الوساطة التي كنا اقترحناها لحقن دماء العراقيين قد فاتت،وأن المستقبل،إذا استثنينا التدخل الدولي وإيران،سيشهد موقفاً حاسماً إما مجزرة رهيبة ترتكبها من بيدها السلاح،أو اضطرار البرلمان الى حلّ نفسه ودعوته لإجراء انتخابات جديد باشراف دولي،أو إعلان المتظاهرين تشكيل حكومة جديدة والتوجه بتخطيط مدروس جماهيرياً ومحلياً ودولياً..نحو الخضراء!.