تدوين ممتع لمحاضرة توائم بين الوثيقة التاريخية وسياقها الصوري
لندن- من فيصل عبد الله
عبر كاميرا هاتفه النقال، وعلى مدى عشرة أعوام من العمل الجاد، راكم البريطاني/ من أصل إيراني، تقي أميراني مواد درس شريطه الوثائقي "إنقلاب 53" (118د).
والمقصود بالإنقلاب، هنا، هو ذلك الذي أطاح بالرئيس المنتخب ديمقراطياً محمد مصدق (1882-1967)، من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ونظيرتها البريطانية ( MI6) وضمن خطة أطلق عليه "عملية أياكس"، عقب تأميمه لنفط بلاده. وفيه يساجل أميراني، وكما يسرد الشريط، إن من الخطأ إرجاع تدهور العلاقات مع أمريكا وبريطانيا مع بلده، مثلاُ، الى حادثة إحتجاز الرهائن الأمريكان غداة الثورة الإسلامية والتي جاءت بآية الله الخميني عام 1979، بل هو أبعد وأكثر تعقيداً، ولربما أكثر إلتباساً. وعليه أجتهد أميراني بجمع مواد أرشيفية هائلة، مراسلات وتقارير مودعة في خزائن المكتبات الرسمية أو تلك التي أفرج عنها قريباً، وصحف ومجلات ومقابلات تلفزيونية قديمة وأخرى حديثة، وقسم منها يعرض للمرة الأولى. وأوكل مهمة توظيب خلاصاته البحثية الى المونتير والمعلم الأمريكي وولتر مورتش، من بين أشتغالاته المونتاجية "القيامة الآن" (1979) لفرانسيس فورد كوبولا، و "المريض الإنكليزي" (1996) لأنتوني مانغيلا. بمعنى ان المخرج قدم قراءته الشخصية والجريئة، أقله سيناريو ما طبق في بلده له أمثله مشابهة في بلدان أخرى، وعلى شكل وثيقة بحثية لها شخصيتها المستقلة. تدوين لمحاضرة ممتعة توائم بين الوثيقة التاريخية وسياقها الصوري، وبقدر كبير من الموضوعية والنباهة.
من فرط حب لازمه منذ الصغر لشخصية الرئيس الراحل محمد مصدق، الأقرب الى مثال غاندي في الهند وكعذر درامي في الوقت ذاته، يبدأ المخرج بدراسة وقائع يوميات الإنقلاب، عبر جمع خيوط ذلك الحدث الضخم. وفيه تتكشف أدوار كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ما يحسب له وكأننا نعيش الحدث طعم المخرج شريطه بمقابلات تلفزيونية وأرشيفية مع شخصيات ساهمت بالحدث، مثل عملاء السي. آي.أيه. السابقين وورجالات سياسية بريطانية نافذة وقتها. ورغم ان تهمة تدبير الإنقلاب غدت معروفة للداني والقاصي، إعترفت أمريكا بدورها القذر قبل 6 ستة سنوات او حولها، لكن الجهات الرسمية البريطانية دلست على الموضوع ولم تعترف أبداً بدروها. لذا أراد المخرج أن يصل في بحثه الى كشف السر المكتوم. يمر الشريط على أدوار من ساهم في الإنقلاب من داخل إيران، وعلى رأسهم الجنرال القوي نظام الدين زاهدي والمقرب من السي.آي.أيه، يسجل المخرج شهادة مع أبنه، يقيم في سويسرا، عن يوميات الإنقلاب وذكرياته عن والده حيث توقفت عندها منذ زمن طويل. الى افتعال موجات شغب في شوارع طهران وعنف دموي قاتل تكفلت شقاوات إيرانيين، جيء بقسم منهم من الخارج، لتنفيذها، وشهادات الضحايا وعلى رأسهم أنصار حزب تودة. رسم المخرج مشهديات هذا الفصل بتخطيطات دراماتيكية للتعبير عن اليوميات الدموية، مرورا بنقل الشاه من منفاه الإيطالي الى إيران.
لكن خيط التورط البريطاني الرسمي أو مخابراتها (أم. آي. 6) ودليله ظل هاجس أميراني البحثي وشاغله. لذا، وكجزء من متابعة بحثه قادته المصادفة الى سلسلة حلقات "نهاية الإمبراطورية"، قدمها تلفزيون البي.بي. سي منتصف ثمانينات القرن الماضي، والمخصصة لإيران. وجد أميراني ضالته في مقابلة مع عميل الـ (أم.آي.6) نورمان داربيشاير، فهو المفتاح وحامل السر. وليكتشف، كما يسرد الشريط، من أن نص تلك المقابلة الكامل والمكتوب لاحه الحذف وأختفى، أو لم يتمكن من حصول معلومات شافية من فريق عمل تلك الحلقات، او لم تسعف الذاكرة القسم الآخر، برسم صورة عن هذه الشخصية المبهمة. بيد ان بحثه يقوده للوصول الى النص الأصلي، ولنكتشف معاً ان داربيشاير، فضلاً عن انه عميل مخابرات، يعمل أيضاً مع شركة بريتش بتروليوم في إيران، ويجيد اللغة الفارسية والعربية ومقيم في قبرص وقتها، وكان حلقة وصل محورية في هندسة الإنقلاب. إعاد المخرج تصوير المقابلة وبضمنها الأجزاء المحذوفة بصوت وأداء صاحب الحضور الطاغي رالف فينيس لشخصية داربيشاير، وسجلها في المكان ذاته، فندق السافوي، الذي جرى فيه تصور الحلقات تلك.
ولتوسيع دائرة سجاله، يعمد المخرج الى وضع ما حدث في بلده ضمن سياق تاريخي وسياسي عالمي أفرزته تداعيات الحرب العالمية الثانية، وإنحسار مناطق نفوذ "الأمبراطورية"، خصوصاً بعد استقلال الهند والباكستان، وانتصار الثورة الصينية، ويخلص الى أن بريطانيا بدأت بتقليب دفاترها الاستعمارية القديمة. أما علاقة إيران بالولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الرئيس ترومان فقد كانت طبيعية، لدرجة اختيار مجلة "التايم" الرئيس محمد مصدق كشخصية لعام 1952 ولتضعه على صدر غلافها، رغم التوجس من نواياه الوطنية. لكن تبدل الموقف الامريكي الدراماتيكي من إيران بدأ خلال فترة الرئيس آيزنهاور، تلقف داربيشاير هذه الإشارة وبالتنسيق مع نظرائه في وكالة المخابرات المركزية الامريكية في التحشيد للإطاحة بالرئيس مصدق ونهاية حقبة بكاملها. تكشف المقابلات الأرشيفية، وكما ترد في سياق الشريط، لغة التعالي والعجرفة البريطانية، إذ لم يأخذ سياسي بريطاني محافظ على الرئيس مصدق سوى شكل هيأته البسيطة وشكل ملابسه.
وضمن سياق السجال أعلاه يأخذنا أميراني الى أس المشكلة ومدى أهمية نفط إيران الى بريطانيا، اعتبره رئيس الوزراء الراحل ونستون تشرشل "حصة عادلة"، يأخذنا الى عام 1908 حيث بدأت شركة (BP) بافتتاح مصافي عبادان النفطية. وبروز أهمية النفط في القرن العشرين كعصب محرك للاقتصاد ولصراع النفوذ في آن، ترد في سياق الشريط اشارات مهمة، منها ان السفن البريطانية كانت تتفوق على قريناتها الأوربية كونها تبحر بمشتقات النفط فيما الآخريات على الفحم الحجري. أو كيف نصب الشاه وماكانت مطالبه، الولايات المتحدة تتكفل بتدريب وتسليح جيشه فيما يتولى جهاز "الموساد" الأسرائيلي بتأسيس نسخته الإيرانية المسماة "السافاك" حمايته هو ونظامه؟..ولعل اختيار آخر مقابلة لشاه إيران مع تلفزيون البي.بي.سي، وسؤاله عن الوضع السياسي تحت حكمه واجابته المباشرة والصريحة، حملها المخرج أكثر من معنى وروائح نفاق سياسي. تخلي الغرب عن حليف الأمس، لكنهم مع ذلك حضروا جنازته في القاهرة ومظاهر الحزن عليهم، ومن بعدها مغازلة نظام آية الله الخميني القادم بثورته العارمة.
ومثلما يعيد شريط "إنقلاب 53" الى الشاشة تاريخ من العلاقات المضطربة بين أمريكا وبريطانيا، تحديداً، مع إيران، فانه، أيضاً، يخلص، وهنا مربط الفرس مثلما يقال وخطورته، من أن النفط سيظل محور صراع القوى الكبرى. ولعل ما نشهده منطقتنا حالياً،ربما، يتفق مع منطق وقناعات مخرجه.