لطفية الدليمي
تقليدٌ أقربُ إلى استعراضات المسرح المدرسي ذلك الذي إعتاده أحد عتاة العملية السياسية المهترئة في العراق : يظهر أمام مجاميع من مريديه وهو يردّد باكياً : " نحنُ فشلنا في حكم العراق ، وعلينا جميعاً أن نعتذر إلى شعبنا " ، وكان الله يحبّ المحسنين ويكفيهم شرّ القتل والقتال !!
كيف نصنف بعض هؤلاء الذين صاروا حُكّاماً للعراق في غفلة غبية من الزمن ؟ تقول الأمثولة المتداولة " إنّك لاترتجي من الشوك تيناً " ؛ فهل نرتجي من هؤلاء صدق الإعتذار والقبول بكل النتائج المترتّبة عليه ؟
لايزال هؤلاء يعيشون في أقبية التنشئة الحزبية المنغلقة المعروفة بأنها تربية تقوم على المكر والخديعة واصطناع المؤامرات والنميمة والإيقاع بالخصوم الحقيقيين والمفترضين بأكثر الوسائل خسّة ودناءة ، وإذا كنّا نعيبُ على الأحزاب القومية الشوفينية مغالاتها في هذه الصفات الحزبية الذميمة فقد أثبتت الوقائع المختبرة على الأرض أن الأحزاب الإسلاموية تفوق الأحزاب القومية الشوفينية في جرعة كراهية الآخر والإنغلاق على منظومة مقفلة من اليقينيات الراكدة . إنّ ثقافة الإعتذار بعيدة عن منظومتهم السلوكية، وماإعتذارهم سوى رغبة كاذبة تتوسّل ملامسة العواطف التي يسهل تحريكها لدى العراقي الموصوف غالبا بأنه ( أبو دميعة ) ودمعته يسيرة متاحة بطرف عينه.
إن المهم في أي اعتذار، الجوانب العرافية والقانونية في أطروحة الاعتذار . من المعروف في أخلاقيات التعامل العامة وآداب السلوك المتحضّر في كلّ بقاع الأرض أنّ يعتذر المرء عندما يُقدِم على فعل شخصي يتسبّب في أذى ( مادي أو سايكولوجي أو كليهما ) لشخصٍ آخر ، وهنا يأتي الإعتذار كمقدّمة لإيجاد وسيلة تواصل إنسانية تساعد في فكّ الإشتباك وتغليب العلاقة الإنسانية الطبيعية على وسائل العنف والتدمير ، وكثيرة هي المواقف التي يمكن لنا أن نذكرها في هذا الشأن ، وهي في أغلبها ناجمة عن التعامل اليومي مع الحياة ، ولعلّ حوادث السير في الشارع خير مثال لهذا ؛ إذ سيكون أمراً محموداً أن يعتذر من تسبّب في أذى لسيارة يقودها شخص آخر رغم أنّ هذا الإعتذار لن يلغي الآثار القانونية المترتبة على هذا الفعل .
يبقى الأثر القانوني المترتب على فعل مسيء هو الأثر الأعلى شأناً ولايمكن نكرانه مهما تمادى المخطئ ( غير القاصد فعل الإساءة ) في فنون الإعتذار أو معسول الكلام . الإعتذار في الأخلاقيات العامة وفنون الأتيكيت السلوكي ليس سوى رغبة في فتح قناة حوارية تمهّد للتسوية القانونية فضلاً عن أنها تسعى لامتصاص شحنات الغضب التي تنشأ لحظوياً عند ارتكاب فعل الإساءة . لامجال إذن لأيّ لعب أو خلط للأوراق في هذا الميدان .
يحار المرء حقاً في توصيف سلوكيات من صاروا حُكّاماً للعراق ؛ فهي سلوكيات تمزج بين الغطرسة الغبية والإدعاءات المبالغة في التواضع الكاذب ، ونحن نعرف تماماً أنّ ثقافة الإعتذار بعيدة عن سلوكياتهم العميقة ، ولم تكن يوماً جزءاً متأصلاً فيها . قد يتوهّمون أنهم يحاكون مافعله ( نلسون مانديلا ) في الحالة الجنوب أفريقية و فاتَهم أنّ الرجل تقبّل ثقافة الإعتذار من جانب البيض عن سلوك جمعي آذى السود، ولم تمتدّ هذه الثقافة الإعتذارية لتشمل الجوانب القانونية ( كالسرقة أو القتل أو سواهما ) .
إن اعتذار البعض من ( مسؤولي ) العراق ماهو إلا لعبة ساذجة ، ولن تنفع دموعهم الزائفة والمشهديات المسرحية البائسة في مواجهة أقدارهم المحتومة،وماأفظعها من أقدار هم من رسم خاتمتها المشينة .