TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: نهاية الكائن المافيوي

قناديل: نهاية الكائن المافيوي

نشر في: 28 ديسمبر, 2019: 08:10 م

 لطفية الدليمي

(مارتن سكورسيزي) عبقري سينمائي لاأظنّ أن هناك من يشكّك في عبقريته المشهودة . قد نختلف على بعض تفاصيل موضوعاته السينمائية ؛ لكنه يبقى علامة كبرى في تأريخ الفن السينمائي.

أسوق هذه التنويهة كمقدمة للتعليق على أحدث أفلامه (الإيرلندي The Irishman) الذي رأى فيه الكثيرون تحفة سينمائية على كل المستويات: إخراجاً وإنتاجاً وطاقماً أدائياً متمرّساً عظيم القدرات وموسيقى ومؤثرات بصرية يتمّ إستخدامها للمرة الأولى في الفن السينمائي. 

لاأحبّ الأفلام الهوليودية ذات الميزانيات المتضخمة : هذا أحد القوانين السينمائية التي تشكلت لديّ بعد تأريخ طويل من المتابعة والمشاهدة والقراءة ؛ إذ يبدو أشبه بحقيقة ثابتة أن المخرج الذي يضخّم المال الإنتاجي سيجنح - بالضرورة - إلى المبالغة في الإستعراضات المشهدية (أعمال ال Show) في محاولة منه لإقناع المشاهدين - فضلاً عن الجهة الإنتاجية - أنّ ثمة مايسوّغ حجم الأموال التي صُرفت على الفلم ، وبالتالي فإنّ الجهد الإخراجي بأكمله سينصرف إلى هذه الألعاب عوضاً عن تناول الأفكار المؤثرة بذاتها ، ويحضرني كأمثلة تطبيقية فلمان أراهما علامتين مميزتين في تأريخ السينما: الأول هو فلم ( آيريس IRIS ) عن حياة الفيلسوفة الروائية آيريس مردوخ، والثاني فلم (قبل شروق الشمس BEFORE SUNRISE)؛ إذ أنهما فلمان غير باذخين إنتاجياً، لكنهما مميزان بوفرة الحوارات الفكرية والفلسفية الممتعة والأسلوب الإخراجي الساحر لإجتذاب المشاهد والإستحواذ على حواسه بعيداً عن المهرجانات المشهدية . ماذا يمكننا أن نتوقّع إذن من فيلم يصنعه (سكورسيزي) المعتاد على المطوّلات الفلمية -التي تتجاوز الساعات الثلاث غالباً- ، وبخاصة إذا ماعلمنا أنّ ميزانية الفلم تمّت مضاعفتها مرتين لتغطية الأجور الباهظة لنجوم من حيتان السينما أمثال روبرت دي نيرو و آل باتشينو؟ 

قد يبدو تمهيدي هذا إشارة إلى عدم إعجابي بفيلم (الإيرلندي). أبداً، ليس هذا ماأسعى للحديث عنه . صحيحٌ أنّ (سكورسيزي) صار بمثابة متعهّد أبدي لإخراج الأفلام الخاصة بعالم المافيات والرؤوس الكبيرة المهيمنة فيه ؛ لكنه يطرح في كلّ مرة جانباً من هذا العالم مغايرا للجوانب التي قدمها في أفلامه الأخرى ، وهذه هي سمة تفرده الإخراجي . إنّ مايميّز (سكورسيزي) عن مخرجي أفلام الأفكار هو أنه يدفع بالمشاهد إلى اقتناص الفكرة ( التي تكون في العادة فكرة وحيدة لافيضاً من الأفكار) بعد ثلاث ساعات من متابعة المشهديات السينمائية المصنوعة بحِرَفية عالية.سكورسيزي بهذا لايُعدّ صانع أفكار خالصة بقدر ماهو لاعب ماهر يجيد التلاعب بالمجال البصري ويدفع المتلقي للتفكّر في ثيمة فلسفية محدّدة.

إنّ كلّ ماسعى (سكورسيزي) لتمريره للمشاهدين بعد ثلاث ساعات ونيّف من المشتبكات المشهدية والتداخلات الزمنية هو ماتقوله وضعية البطل (روبرت دي نيرو)، الوحيد المهمل في دار المسنين والذي يطلب من إبنته النافرة منه أن تترك الباب مفتوحاً بعد مغادرتها ، فهو يخشى البقاء وحيداً مع أشباح أولئك الذين استقرت رصاصاته في رؤوسهم . أية نهاية بائسة ومريرة!! هل ثمة في الحياة مايسوّغ أن ينتهي المرء هذه النهاية البشعة وهو يتهامس مع أشباح؟ 

كم تمنيت وأنا أتابع الفيلم أن يشاهده أعضاء المافيات العراقية التي تتحكّم بمصائر شعبنا ، حينها سيعلمون أية نهاية مروعة تنتظرهم، هذا إذا أتيح لهم أصلاً أن يكملوا ماتبقى من حياتهم في مصحات ؛ لكني موقنة أن هذه ( الرفاهية ) لن تكون متاحة لهم أبداً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram