TOP

جريدة المدى > سينما > كتاب (في الطابق الرابع) انفتاح التعبير من السرد الحكائي إلى السينمائي - 6 -

كتاب (في الطابق الرابع) انفتاح التعبير من السرد الحكائي إلى السينمائي - 6 -

نشر في: 1 يناير, 2020: 06:35 م

أحمد الناجي

ينشد الى نشوة الابتداء، ويستسلم الى غواية المباشرة بتدوير الألة التصوير، ينظر الأماكن ويعاين الأجواء، يتفحص الكاميرات، ويحدد زوايا التصوير، ويترصد مصادر الضوء، ويستمكن مناطق الظلام، يصوغ أفكاره بلغة أنيقة،

وتعابير باذخة، يبدع ويبتكر، وهو باختصار يفصل قماشة أفلامه بمهارة نادرة وحرفية فائقة، فتتعاشق جميع العناصر على الورق، لتذوب في المنتج الفني، السيناريو/الكلمة.. الصورة.. الموسيقى، فضلاً عن اختيار الصوت المصاحب ذي الأثر المناسب، والمونتاج النهائي، يحتاج هذا الاشتغال التكويني الى براعة في الصياغة والتركيب، ويتطلب خبرات في اتساق الدمج والامتزاج بين كل من السينمائي والحكائي جنباً الى جنب، أي الربط بين الصورة والكلام وبقية المكونات والمؤثرات بارتباط عضوي بشكل متوازٍ ومتزن، بحيث تنصهر كل دعامات الانتاج في بوتقة واحدة، وتصب روافد التعبير الفردي في جوهر العمل النهائي الذي يتشارك فيه الشأن الفني بالشأن الإعلامي، بغية تبلور المعاني/الخطاب الذي يروم صناع الفلم توصيلها الى المتلقي. 

أثناء العمل يظل يرقب ويراقب ويتفاعل مع الأحداث، ولديه خبرات للتعامل مع المفاجأت غير المحسوبة، يمتلك قدرة على تذليل المعوقات، ومن غير المستبعد أن يقوم بإجراء تعديلات أثناء التصوير، يخبرنا بأنه: "حين كانت بغداد تأخذ قيلولتها، أنصرف أنا لتعديل السيناريو حسب متغيرات التصوير ومفاجآت المقابلات، بينما يحضر باقي الفريق لتصوير جديد" (ص62). فهو يمتلك شجاعة الموقف، والقابلية على التحكم بالعمل، مضيفاً على حديثه ما يشير الى أنه يركن لهذا النهج في أكثر من عمل، قائلاً: "كانت لدي الفرصة بأن أغير شكل الإنتاج... هذه التحولات كنت أقررها على الأرض، وأثناء التصوير، أقررها وفي بعض الأحيان لا يعرف الفريق هذا التحول إلا والعمل يوشك أن ينتهي" (ص119)، ولا يتأتى النجاح في مثل هذا المشروع الفني إلا لمن يحوز على عين لاقطة، من أمثال صاحبنا الذي تصدى بكل ما امتلك من مواهب وخبرات ومؤهلات لمهنة الاخراج وكتابة السيناريو.

يعتمد في أعماله على ذاكرة بصرية قوية، يسعى الى تصوير ما يراه من يوميات الحياة المألوفة التي تمر بالقرب من الناس، ولكن دون يكترثوا اليها، وإيضاحاً لذلك يعطينا فكرة حول عمله في مدينة مكة المكرمة، حين يقول: "يعني ما أريد (أصور) الكعبة، أريد خطاط كسوتها، ما أريد بير زمزم، أريد فخّار زمزمياته، أريد الحمام الطائر حول الحرم والصبي دافع العربة... أريد الحياة خارج الصورة المرتبة.. الصورة النمطية التي يعرفها الجميع" (ص103) فيعيد انتاجها بعدسة الكاميرا من جديد، والغالبية منها عرضت من على شاشة فضائية العربية وشقيقاتها الاخبارية. 

ولعل أبرز ما يسند الصورة في المنتج السينمائي هي الكلمة، وهذا المنحى نجده متبدياً بوضوح لدى فيم فيندرز المخرج السينمائي الألماني المعروف، ففي تنظيراته يعلي من شأن الكلمة في صناعة الشريط السينمائي على حساب الصورة، ويقوم بإضفاء دور كبير وبارز على الكلمة، فيذكر: "السينما، تبدأ بكلمات على الدوام، فالكلمات هي من تقرر إذا كان للصور حق الولادة". ويسترسل هذا الفنان مستحضراً من خبرات وتجارب السنين الطويلة ما يعزز أهمية الكلمات الفائقة، مبرزاً ذلك فيما يقوله: "إنها الطريق التي يجب أن يعبرها الفلم كي تستطيع الصور أن تخرج الى حيز الوجود. وهنا بالذات، يخفق الكثير من الأفلام" (فرانك هارو، فن كتابة السيناريو، ص5). 

أستطيع القول إن في تجربة نوفل خصائص تعكس تنظيرات فيندرز تماماً، بمعنى أنها الجانب العملي/التطبيقي الذي يتسق وينطبق مع تفصيلات فندرز ومعطياتها النظرية، ذلك كله يتجسد في نجاح أفلام نوفل الوثائقية، لأنه سارد من طراز فريد، يلوذ باللغة، ويعرف أسرار الكتابة للسينما واشتراطاتها، مدركاً "أن ما لا تستطيع أن تصل اليه بالكتابة ينبغي أن تقوله بالصورة، وأن ما لا تقوله الصورة تقوله أنت بالكتابة" (ص23)، واللغة بين يديه مطواعة مثل العجينة، يداورها من وجه الى أخر، ويخبزها على نار هادئة بحسب مشتهاته، يتنقل بموهبته بين لغة السرد الحكائي المدهشة ولغة التوثيق المبهرة، فتنساب الصور المتحركة بالاتساق مع التعليق الفلمي المؤلف من الكلمات المفعمة بالطاقة والحيوية، متكاملة مع بقية العناصر التي يتشكل منها الشريط السينمائي، ولذلك كله نجده يجد ويجتهد في جميع مراحل الانتاج، يتولى بنفسه مهمة (غرافيك) الفلم وتصميم عنوانه، يلاحق الفكرة يشذبها ويصقلها، لا يكل يتفانى بكل ما يملك من طاقة لأجل اكتمال العمل وانجاز الفلم، وعرضه في الموعد المحدد الذي قطعه مع نفسه.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

ترشيح كورالي فارجيت لجائزة الغولدن غلوب عن فيلمها (المادة ): -النساء معتادات على الابتسام، وفي دواخلهن قصص مختلفة !

تجربة في المشاهدة .. يحيى عياش.. المهندس

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram