د. فالح الحمـراني
الحاكم لا يولد حاكماً وإنما يصبحه. والسلطان قابوس بن سعيد الذي رحل في 10 كانون الثاني 2020 في أصبح حاكماً بكل معنى الكلمة وأكثرها نصوعاً، وتشهد على ذلك الإنجازات الكبيرة الذي خلفها، التي تدرجه في مصاف الزعماء التاريخيين في المنطقة.
إن خبرته وحكمته السياسية كزعيم دولة، ستكون تراثاً سياسياً يمكن الرجوع له كدروس في علم السياسية وإدارة الدولة وتتصف بخصوصيتها، والقواعد التي اعتمدها الراحل في الارتقاء بالسلطنة من حالة القرون الوسطى الى مشارف الواحد والعشرين، وتمكن من جعل عُمان واحة للاستقرار، والهدوء في محيطها الإقليمي المضطرب. رحل السلطان وهو صديق للجميع إقليمياً وعالمياً ولشعبه، لذلك أعلنت الحداد بوفاته العديد من العواصم، واعتبر الخبراء رحيله خسارة كبيرة ليس للسلطنة وإنما إقليمياً ودولياً. رحل وبحق وصف بانه " مصلح على العرش. إننا في العراق، ولاسيما في ظل هذه المرحلة الصعبة من تاريخينا بحاجة ماسة لأن نمعن الفكر بدروس الراحل ونستفيد منها، للتغلب على الفشل السياسي الذي اتصف النظام السياسي منذ 2003.
ولنتساءل لماذا تمكن السلطان الراحل في في فترة قصيرة نسبيا بناء دولة عصرية ذات مجتمع تعددي متماسك واقتصاد نامي ومكانة إقليمية ودولية، فيما فشل حكام العراق منذ 2003 في إعادة إعمار البلاد وإنعاش اقتصاده وتعزيز الوحدة الوطنية واستعادة سيادته، واجتثاث الفساد، وتوفير الأمن والسلامة للمواطن....؟
تجدر الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من سكان السلطنة لم يعرفوا أي حاكم آخر ما عدا السلطان قابوس ، الذي تمتع بسلطة لا جدال فيها ، وكان رمزاً للازدهار والاستقرار، واستثنائية من حيث فعالية الإصلاحات التي شملت البلد بأسره. أولئك الذين يتذكرون وقت سلف السلطان قابوس بن سعيد، السلطان سعيد بن تيمور ، يفضلون عدم تذكر سنوات ما قبل عهده ، المرتبطة بالتخلف اليائس، وانعدام التقدم والفقر. على سبيل المثال ، تم بناء العديد من معالم العاصمة والمدن الأخرى (المسجد ، المكتبة ، الشارع المركزي ، إلخ) بعد صعود السلطان قابوس للعرش وخلال عهده. يحب العمانيون الحديث عن الإصلاحات الواسعة النطاق التي قام بها السلطان الحكيم ، حول جولات العاهل الدورية في جميع أنحاء البلاد لإجراء محادثات شخصية مع ممثلي مختلف قطاعات المجتمع ، والتي قام بها منذ السنوات الأولى من حكمه، وعن حب السلطان لشعبه.
نرصد من خلال التمعن في النهج السياسي للسلطان قابوس استناده الى التطوير والإصلاح التدريجي . إن الممارسة العملية برهنت على نجاعة هذا المنهج من خلال تحقيقه نتائج باهرة. إن الانعطافات الحادة وما يسمى " بالثورات" الشعبية التي شهدتها المنطقة ما بعد الحرب العالمية، لم تحقق الشعارات الصاخبة التي جاءت على موجتها، وحققت أهدافا معاكسة تماما. بينما نهج الإصلاحات التدريجي الذي يتصف به " نهج الراحل قابوس أعطى ثماره الملموسة في جميع أركان الدول والمجتمع. من الواضح أن السلطان الراحل شخص الأولويات في عملية الإصلاح والتطوير بشكل حاذق. فكانت في مقدمتها البنية التحتية، والمؤسسات والأجهزة التي تتعلق مباشرة بنوعية حياة الإنسان. وتتمتع السلطنة اليوم بنظام صحي على وفق منظمة الصحة العالمية يندرج ضمن الأفضل عالمياً، وكذلك التعليم والعلوم والأدب الذي صنع طفرة لتكون أعماله في مصاف افضل نماذج الأدب العربي، ويحق لمسقط ان تفتخر بأكبر مبنى للاوبرا والعرض في الشرق الأوسط. ووقف وراء كل ذلك السلطان الراحل بنفسه. وحرص السلطان في نهجه على الموائمة في جميع المجالات بين الموروث والإصالة والحداثة.
لقد اعتمدت الإصلاحات وعمليات التطوير على الخطط الخمسية الفاعلة، التي أرست القاعدة الاقتصادية للبلاد، وأسست لاستحداث مرافق إنتاج جديدة بهدف تنويع الاقتصاد والكف عن اعتماد مدخول الدول فقط النفط، وتشجيع القطاع الخاص ومجال الزراعة وتقديم الدولة لها كافة التسهيلات، وجرى الاستفادة من الموقع الجغرافي لعمان وسواحلها الذهبية لتطوير السياحة وتاريخها العريق، ووضعت أهداف بعيدة من اجل ان تكون ركن هام في هيكلة الاقتصاد، ورافق ذلك بالطبع مد الطرق الحديثة وبناء المجمعات السياسية العصرية.
إن نهج السلطان الراحل يجعلنا ندرك أهمية الوفاق الاجتماعي، وتماسك المجتمع، ومشاركته في تحقيق الأهداف التي رسمتها له قيادته، وتعيش المذاهب الدينية في ( الأباضية والسنية والشيعية) في السلطنة بوفاق وسلام، يجمعها الإسلام. ان الشعوب لا تلتف إلا حول القيادات التي تثق بها، والتي تؤمن بان تحركاتها تصب في صالحها، في صالح ازدهارها وتوفير الأمن والسلام، وتزرع في داخلها الثقة في المستقبل سواء على المستوى الخاص، أو مستوى. وقد حقق السلطان ذلك. فكسب احترام وحب شعبه من دون انقطاع. وكان السلطان قد أولى أهمية لقضية العدالة الاجتماعية، وانشغل بمصير كل مواطن كل عائلة كل جهاز من أجهزة الدولة. لقد كان قريب جداً من الشعب يدرك تطلعاته، ويعمل على تحقيقها، وحينما تقوم المصاعب والأخطاء يعترف بها. كان يدرك دينامية التطور وحراك الوعي والمتغيرات في العالم وفي داخل البلاد، ووضع البرامج الطموحة لتمكن الجيل الجديد من التكنلوجيات الحديثة وأداخلها في مؤسسات الدولة وفي الاستعمال الخاص. وشجع الشباب على تحصيل العلوم في مختلف المجالات، ووفرت الدولة فرص واسعة لحثهم على الدراسة في الدول المتطورة، وتوظيف معارفهم لخدمة الدولة.
حينما ندرس تطور العملية السياسة الحديثة في السلطنة فأننا نجد أنها تطورت خلال عدة عقود بشكل متصاعد، وانتقلت الدولة خطوة فخطوة نحو إشاعة الديمقراطية، لا الديمقراطية المنفلتة، والشكلية كما نراها على سبيل المثال في العراق، بل الديمقراطية الخاصة التي تنبثق من خصوصية المجتمع ومورثه القيمي. وظهرت المؤسسات التشريعية والاستشارية. وفي منتصف السبعينيات ، أدرك أن الحاجة قد نضجت لإدخال المبادئ المخطط لها في الاقتصاد. وبمشاركته المباشرة ، تم إنشاء مجلس التنمية الوطنية الذي وضع أول خطة تنمية خماسية للأعوام 1976-1980. تبعته الخطط الخمسية القادمة. في عام 1981 ، شكل المغفور له قابوس المجلس الاستشاري ، والذي تحول في عام 1991 إلى مجلس الشورى. في نوفمبر 1996 ، وقع السلطان قابوس أول قانون أساسي (دستور) في عمان ، والذي يحدد صلاحيات السلطان وأمر الخلافة. ينص الدستور على إنشاء هيئة تمثيلية واستشارية واحدة - مجلس عمان ، كما تعلن لأول مرة الحقوق الأساسية للمواطنين.
لقد حرص السلطات على عدم إقحام المجتمع بتطبيقات تتناقض جذريا مع مفاهيمه وقيمه، ودفع بشكل متوازن بالتطبيقات التي تتناسب والمرحلة وانسجاما مع روح العصر ومستوى تطور الوعي الاجتماعي، وفي هذا الصدد منح أهمية كبيرة لتفعيل دول المرأة في كافة مرافق الدولة، فكانت عضوة في الحكومة وفي البرلمان وناشطة اجتماعيا، ومبدعة في مختلف صنوف الإبداع، وحينما وجد السلطان ان تمثيلها في مجلس الشوري غير مناسب لحجمها في المجتمع منحها النسبة التي تكرس له قانونيا. وحينما وجد ما يسمى بالربيع العربي انعكاسات له في السلطنة، ونُظمت بعض الاحتجاجات التي رفعت شعارات اقتصادية واجتماعية، سارع السلطان الى الحوار مع المشاركين فيها، ووافق على مطالبهم ودعمها بقرارات فعلية، لتخفيف مشكلة البطالة، وتشديد ملاحقة الفساد الحكومي. لم يواجه احد المشاركين بالاحتجاج بالرصاص والقتل اليومي كما يحدث اليوم في العراق.
اعتمد نهج السلطان في السياسية الخارجية على مبدأ حسن الجوار الخلاق، وتجفيف المشاكل والخلافات، وتجنب النزاعات والحروب. وانتهج سياسة إقليمية خاصة بعيدا عن المزايدات والنفاق والتظليل والشعارات الفارغة، التي اتبعتها غالبية الأنظمة العربية، لكن السلطنة ساهمت ومن دون ضجيج في دعم القضايا العادلة، ومد يد المساعدة للشعوب والدول التي هي بحاجة. ولعبت أدوارا رائدة في الوساطة بين الدول المتنازعة، للتوصل الى تسويات تأخذ بعين الاعتبار مصالح الجميع، وتتلافي خيارات القوة وإراقة الدمار وتدمير الدول، كما خصصت السلطنة في عهده الجوائز والمُنح لتشجيع العلم والقافة والأنشطة الإنسانية في جميع أنحاء العالم.