ستار كاووش
توقفتُ قرب حافة الشارع المطل على منحوتة الفنان وليم دي كوننغ، بإنتظار الضوء الأخضر كي أعبر نحو محطة قطار مدينة روتردام، وفجأة إنتبهتُ لشاب وفتاة يقفان أمامي،
فدعاني الفضول للنظر اليهما، وما أن فعلتُ ذلك حتى سمعته يقول لها بضعة كلمات باللغة الهولندية التي لم أكن أعرف منها سوى كلمات قليلة، وهنا ولدت اللحظة السحرية التي لن انساها أبداً، اللحظة التي إستجابت فيها الفتاة لكلمات صديقها، حيث إلتفتت إليه بنظرة ودودة وطوقت خصره بذراعها ورمت رأسها على كتفه ليتناثر شعرها الأشقر عابثاً فوق ظهره. يالسحر الكلمات ويالطاقة الحروف وتأثيرها الآسر! هناك قرب تلك المحطة التي ترقد جنوب البلاد، وفي تلك اللحظة التي تناثر فيها شعر الفتاة، قررت أن أتعلم اللغة الهولندية بشكل يتيح لي قول مثل هذا الكلام، كلام يجعل (صديقتي) ترتمي نحوي بكل حنوٍّ وعاطفة.
تلك اللحظة كانت أولى خطواتي في دخول الثقافة الهولندية وعوالمها وكانت أول دافع حقيقي لتعلم اللغة وتقاليد البلد، وما أن بدأتُ بالدراسة في درينته كولج، سألت جاري هانس أثناء إستعارتي منه مقص تشذيب شجيرات سياج الحديقة، عن الطريقة الجيدة لتعلم اللغة، فقال لي مبتسماً بمكر (عليك بقراءة القصص المصورة الهولندية، فبالإضافة الى لغتها السهلة فيها الكثير من ثقافة وتقاليد هولندا) ونصحني بشراء قصص الرسام يان كراوس المصورة، والتي كان يرسم فيها نفسه وزوجته وإبنتيه ويومياتهم المليئة بالأحداث. وهكذا بدأت بواحد من كتبه، وقد أذهلني من فرط جمال الحكايات والرسوم، ثم جاء الكتاب الثاني والثالث... حتى صارت مجموعتي من كتبه أربعين كتاباً، وهي الكتب التي رسمها وكتبها خلال اربعين عاماً حيث كان يصدر كتاباً كل سنة. مضى الوقت ومضيتُ أقضي أغلب أيامي وسط الهولنديين كي أفهم ثقافتهم أكثر ولا يفوتني شيء عن تفاصيل هذا البلد الجميل، وهكذا عرفت عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم، لأجد نفسي أعرف أشياء وتفاصيل تتعلق بالبلد لا يعرفها الكثير من الهولنديين.
اللغة هي المفتاح والسر الذي يدخلك في مجتمعك الجديد، هي التي تجعل خطواتك واثقة في شوارع غربتك وهي التي تضيء لك عتمة الزوايا التي لا تعرفها وتمنحك ثقة ليس لها حدود، اللغة في المقام الأول ولا بديل لذلك أبداً، فهي جواز سفرك قبل أن يكون الجواز مجموعة أوراق بين دفتي كتيب صغير.
قبل أن اتعلم اللغة كنتُ أتردد بالاختلاط بالهولنديين خشية أن بسألوني عن شيء ما ولا أستطيع الإجابة بلغتهم، كنت حين أركب القطار مثلاً، أتجنب الجلوس في الأماكن ذات المقاعد الأربعة المتقابلة، واعمد لإختيار مقعد قرب النافذة وأتقصد بوضع حقيبتي في المقعد المجاور لي، كي لا يشغله أحد. لكن بعد أن تعلمتُ بعض الجمل والكلمات، صرتُ أتقصد الجلوس وسط الهولنديين، بل أبحثُ عنهم عنوة بكل جرأة ومرح، فأمدُّ رأسي نحو أحدهم قائلاً (صباح الخير)، وأردفها (كم الساعة الآن ياسيدي) فيخبرني الرجل المهذب عن الوقت، ثم يلمح الساعة التي في معصمي ويبتسم لأنه فهم بأني لست بحاجة لمعرفة الوقت، بل أرغب بالتحدث ببعض الكلمات الهولندية الوحيدة التي أعرفها. وأتذكر كيف ركبتُ القطار ذات مرة وجلستُ مقابل امرأة هولندية لطيفة وبادرتها وأنا أنظر الى الخارج (الجو اليوم رائع، أليس كذلك ياسيدتي؟) قلت ذلك ولم أفكر بالبرد القارص في الخارج وزخات المطر التي طوقت النافذة، فنظرت اليَّ مستغربة وضاحكة، بينما أخذتُ أومئ برأسي بين المكر والسذاجة، وعيناي تتنقلان بينها وبين المطر خارج القطار، حتى بدت ملامحي مثل ملامح إيدي ميرفي حين يلقي نكتة لا يضحك عليها أحد. في الحقيقة لم أكن أعرف سوى تلك الجملة وأردتُ استعمالها كما يفعل الهولنديون عادة، ولم أكن قد تعلمت بعد كيف اقول إن الجو اليوم سيئ.
وبمناسبة اللغة تذكرت الآن يومي الأول في مدينة كييف، وأنا أحمل معي كتاباً إشتريته من عمان بعنوان (كيف تتعلم اللغة الروسية في خمسة أيام) حينها وقفتُ على بوابة إحد الفنادق وإخترت جملة (أريد غرفة) ورسمتها على ورقة صغيرة حرفياً كما هي باللغة الروسية، وقدمتها لموظف الاستعلامات الذي غرق بالضحك وهو ينقل نظراته بيني وبين حقيبتي والورقة، وكذلك فعل عمال النظافة وكل من قرأها هناك، ليتضح بأني لم اكتب العبارة المقصودة، بل نسختُ التي تحتها، والتي كانت تعني (غرفتي غير مريحة وأريد استبدالها رجاءً)!!