د. فالح الحمـراني
السياسة لا تُصنع من وراء المتاريس. المتاريس تؤسس للمعارك السياسية القادمة. لقد حققت انتفاضة تشرين الباسلة انجازات تاريخية، وإنها نضجت كي تتحول الى حركة لقيادة قوى المجتمع المتطلعة لمستقبل افضل،
وأن تخرج من وراء المتاريس ليكون لها موقع في كل مدينة في كل شارع في كل مؤسسة، لجذب الشرائح الجماهيرية الصامتة الى صفها الى شعارتها، وإعدادها للمنافسة الانتخابية المقبلة، قبل تفويت الفرصة فالطرف الآخر يستعد. إنها بحاجة الى مزيد من الشخصيات التي تحظى بمكانة والوجوه المعروفة القادرة على لف الناخبين حولها. إن الخيار السلمي للانتفاضة، يجعل الخروج من وراء المتاريس، والبدء بعمل سياسي واعٍ ومنظم، عاملاً لجعلها انتفاضة دائمة.
إن الجماهير العريضة، التي تضم في صفوفها مختلف الفئات ومختلف المهن ومختلف القوميات والأديان قالت كلمتها، وآن الأوان لتنظيم صفوفها في معركة سلمية، ناصعة من أجل أن يكون لها موقعاً ريادياً في السلطة، في نظام الحكم المنشود، وأن تكون لها كلمة مسموعة في صناعة القرارات السياسية التي تهم الشؤون الداخلية وعلى صعيد السياسية الخارجية. لقد حان الوقت لهذه القوى التي تمثل هذه القوى الجماهيرية، والتي أثبتت شرعيتها في هذه التمثيل، ومن أجل ديمومة حركتها، والكف عن التفريط بالنشطاء منها، لأن تشكل جبهة وطنية، تقود الحراك الجماهيري، تكون جبهة شعبية لمعارضة النظام الذي فقد عملياً، الكثير من شرعيته . إن راهنية تشكيل الجبهة الشعبية يأتي أيضاً من حقيقة أن أي حزب أو تيار أو حركة بمفردها غير قادرة على مواجهة مكونات النظام الحالي، التي كشرت عن أنيابها، واستعدادها لإراقة الدماء من أجل الحفاظ على سلطتها ونفوذها ومصالح الجماعة والمنافع الشخصية. لن تتخلى عن ثرواتها الحرام. فضلاً عن ذلك أن تلاحم القوى السياسية المعارضة للمحاصصة والمذهبية وتقسيم أبناء الشعب حسب الهوية والعشائرية... سوف يؤكد وحدة الشعب العراقي، سوف يجعل المواطنة فوق الاعتبارات الأخرى.
إن الجبهة الوطنية المطلوبة ستضع برنامجا يتناول كافة جوانب المجالات التي تتعلق بمواصفات النظام البديل المنشود، الذي تتطلع له القوى الاجتماعية الجديدة المستقبلية، سيكون قاعدة إلى التغيير والتجديد، وإلى إعطاء الأولوية للمشروعات التي تخدم مصالح الفئات العريضة من المجتمع، بدلًا من تلك التي تخدم فئاتٍ محدودة، ومحظوظة في داخله، والدعوة الصريحة القاطعة إلى تحقيق عدالةٍ اجتماعيةٍ حقيقية، لا صورية، يحسُّ بها الإنسان المطحون ويلمس أثرها في حياته المباشرة، وصون الكرامة الإنسانية وحمايتها من الذل والفقر والظلم الاجتماعي والسياسي.
وما دام أن عصر الأحزاب قد ولى، أو إنه في بداية مغادرة الساحة السياسية، ليس في العراق وحده كما تشهد التطورات في العديد من البلدان، فان الدور جاء كما يبدو للجبهات الشعبية، الجبهات التي تكافح من أجل التطوير والإصلاح والعدالة وبناء دولة القانون والديمقراطية الحقة. إن الأشهر الماضية برهنت على تحقيق انتفاضة تشرين انجازات هامة. وتحولت الى منبر للشرائح الاجتماعية الواسعة التي خاب أملها بشكل نهائي في نظام الحكم الذي ظهر بعد 2003. وأدلت بصوتها الصريح بان أصحاب السلطة الحالية غير مؤهلون لقيادة البلاد. وإن المرحلة التالية لا تتطلب تغير وجوه فقط وإنما أسس العملية السياسية. بعد كل شيء إن السلطة يجب أن تتحلى بالشعور بالمسؤولية، وإلا فهي عصابة. ومن هذا المنطلق ستضع الجبهة الشعبية تصوراً جديداً للحكم، للسلطة على أنها إدارة وليس تسلط، ولا استحواذ على أجهزة الدولة ومصادر المال لصالح جماعة أو طائفة أو عشيرة أو عائلة. وستكون منبراً لأفضل جوانب البرامج البديلة للحركات والتيارات والأحزاب السياسية المشاركة فيها، لتصوغ منها برامجا موحدا تطرحه على الشعب، للاستفتاء والمناقشة، وبالتالي يكون برنامجها السياسي في الانتخابات، ودستورها للعمل المقبل. برنامج يضع أولويات تطوير البلد، كي تتطور بشكل ارتقائي ،إيقاعي وثقة وعلى جبهة واسعة، في كل المجالات. وإحداث نقلة نوعية في اقتصاد البلاد. إن مثل هذا البرنامج لا ينبغي أن يكون برنامج شعارات سياسية، بل برنامج عمل واضح ومحدد المراحل والمجالات، برنامج يشارك بوضعه علماء وخبراء عراقيون كل في اختصاصه.
يمكن أن تضع الجبهة الشعبية في أولويات أهدافها الوصول الى كل زاوية البلاد، في المدن والأرياف والمناطق النائية التي أهملتها الحكومة لتواجه بنفسها مشاكلها الصعبة، إن تدخل في مؤسسة حكومية وخاصة، أن يكون شبكة من الدعاة الذين تضمهم مكاتب الجبهة الشعبية في كل منطقة سكنية، محافظة، مدينة، قرية، شارع. إن هؤلاء يحملون خطاب الجبهة الشعبية، لشرح برامجها وأهدافها، ويكشفون عن عيوب وإخفاقات النظام الذي حل منذ 2003 وفشل في أن يكون النظام البديل فعلا للأنظمة الدكتاتورية والفردية، بل في بعض المجالات كان عمليا استمرارا لها.
ان برنامج الجبهة الشعبية، لا يمكن أن يتجاهل أو يتغاضى عن تحديد نهج وأولويات السياسية الخارجية للنظام الجديد، يأخذ في نظر الاعتبار إجمالي دروس السياسة الخارجية منذ تكوين الدولة العراقية الحديثة. إن العراق في مرحلته الراهنة بحاجة أكثر إلى تجفيف كافة الخلافات والنزاعات، وإقامة علاقات حسن جوار مع كل الدول الإقليمية. إن لا يفتح جبهات مواجهة خارجية، بحاجة إلى سياسة تضع في مقدمتها مصالح العراق، وتوظيفها في انعاش اقتصاده وتحريك عجلة التطور فيه. العراق في المرحلة الحالية بحاجة الى التركيز على وضعه القائم، والتغلب على المصاعب التي تجابهه، دون التدخل في القضايا التي لا يؤهله وضعه الراهن التورط فيها. إنه بغير حاجة الى المواجهات التي تنسف أخر ما تبقت فيه من " جزر" هادئة ومجالات يمكن تطويرها.
من الأخطار التي تواجه الدولة العراقية، هو تعددية المراكز في إدارة شؤونها. وتسول هذه المراكز لنفسها التدخل علنا في تحديد نهج الدولة، وتعطي الأوامر والتوصيات، ملتفة بذلك على مؤسسات الدولة المشروعة ـ الرئاسات الثلاثة، وضاربة بعرض الحائط أحكام الدستور، الذي يحدد بوضوح صلاحيات كل مؤسسة من مؤسسات الدولة. إن خطورة هذا النهج من كونه ينشر الفوضى، والالتباس، ويعوم من قيمة الرئاسات الثلاث، ويحول الدستور الى ورقة لا جدوى منها. إنها تخلق أجواء شبيه بتلك التي تنامت فيها الفتن وأضعفت الخلافة، ومهدت للاجتياح المغولي لبغداد1258م. سيراعي برنامج الجبهة الشعبية هذا الجانب، ويضع الأسس والقوانين والموارد اللازمة لبناء دولة مركزية متينة، تتحرك فيها جميع المكونات وفق قوانين وقواعد معلومة.
إن الجبهة الواسعة، كقالب سياسي/ اجتماعي يضم كافة قوى المعارضة، التي تقبل ببرامج يتضمن تطلعات القوى الاجتماعية التي تحمل في "أحشائها" بذرة التقدم والتطور والتطلع لبناء دول العراق الجديدة، الدولة العابرة للاعتبارات الدينية والدينية والأثنية والمصالح الضيقة، أصبحت حاجة ملحة. إن الجبهة الشعبية بشكلها المنشود ستكون أداة ناجعة لعرقلة خطر تقسيم العراق الى أقاليم فيدرالية تمهيداً لتفكيكه ونشوب حروب الجميع ضد الجميع. إعاقة سيناريو بلقنة العراق.
إن أمن العراق مهدد خارجياً وداخلياً وعوامل الانفجار قائمة، تغذيها قوى مختلفة من الخارج والداخل. إن ظهور جبهة الشعبية سيكون عاملاً فعالاً في التخفيف من حدة هذه الأخطار المميتة، ويمهد لتضافر جهود جميع القوى النزيهة والمخلصة للبلاد، من أجل الحفاظ على أمن وحدة شعبنا وسلامة أراضيه ومكانتها الإقليمية.