لطفية الدليمي
مذْ كنتُ تلميذة صغيرة وأنا أعشقُ الجغرافيا وأمقتُ التأريخ . الجغرافيا قرينةُ الفكر الجوّال والخيال الخصب ، ولازلتُ أذكر - بشغف وانسحار ومتعة - أطلس العراق الذي كانت وزارة المعارف العراقية تعتمده في المدارس الإبتدائية العراقية،
وربما كان إطلاق خيالي الطفولي الحرّ من مخبئه بفعل ذلك الأطلس الملوّن تلويناً بديعاً هو ماقذفني إلى عوالم الأدب . أليس الأدب - والرواية بخاصة - سياحة في الجغرافيات البشرية والطبيعية ؟.
أما التأريخ فتلك حكاية أخرى معاكسة . بدا التأريخ لي في طفولتي صندوقاً مقفلاً يعجّ بأكاذيب وأفاعيل بشر مخيفين يبدون أقرب إلى التنانين : قتلٌ وغزوات وحزّ رؤوس وتضخيم كراهيات وتعظيم نعرات شوفينية وتركيز قناعات غارقة في صبغتها المحلية الضيّقة حتى بات العالم أقرب إلى جزرٍ معزولة عن بعضها تسكنها مستوطناتٌ بشرية لاعلاقة إنسانية بينها بأي شكل من الأشكال .
لكن شكراً كبيرة أقولها لِـ (بِل غيتس) ؛ فقد أعانتني قراءتي المنتظمة لمراجعاته الثرية لبعض الكتب المنتخبة في مدوّنته الألكترونية إلى إكتشاف مفهوم (التأريخ الكبير Big History) الذي أعاد صياغة رؤيتي للتأريخ .
قد يوحي العنوان الضخم ذو المسحة الدرامية (التأريخ الكبير) بأنّ هذا التأريخ يحكي عن كلّ الوقائع البشرية مهما صغرت أو تضاءلت ؛ غير أنّ المعنى المحدّد للتأريخ الشامل هو سرد حكاية الكون منذ الإنفجار العظيم Big Bang مروراً بالعلامات الأولى لتشكّل الحياة وانتهاءً بالتشكّلات المعقّدة التي تمثّل المجتمعات البشرية أعلاها مرتبة ، وبهذه الشاكلة يكون (التأريخ الكبير) أقرب إلى الكوسمولوجيا والفيزياء والكيمياء التخليقية وعلم الأحياء التطورية والنظم المعقدة ، وهذا التأريخ يتفق تماماً مع توجهات الثقافة الثالثة التي تتعالى على التواريخ التقليدية وتجعل المفردات العلمية حاضرة في كلّ المساءلات التأريخية الخاصة بنشأة الإنسان والكون والمجتمعات البشرية. بالإضافة إلى ماتقدّم يمتلك (التأريخ الكبير) القدرة على كشف حقيقة أنّ كلّ شيء في هذا الكون يتصل بسلسلة سببية مع الأشياء الأخرى؛ الأمر الذي يؤدي لتخليق بصيرة فردية تعزز قدرة المرء على استنتاج شواهد من مباحث معرفية بينية مشتبكة وصهرها في سردية واحدة مفهومة تعزز روح الشغف وتخمد نيران الكبرياءات القومية التي ترى أفضلية بعض الأعراق والإثنيات البشرية على سواها .
إنّ فهم قصة التأريخ الكبير للبشرية، وبالمعنى الذي بيّنته، موضوعة حاسمة في تشكيل صورة المستقبل الذي نتوجّه إليه وترتسم معالمه أمامنا في اللحظة الحاضرة ، وستتكفل القراءة الواعية والصبورة لمثل هذه التواريخ البديلة في جعل مواطن القرن الحادي والعشرين يحوز نظرة محدّثة وغير مسبوقة ستمكّنه في نهاية الأمر من امتلاك قدر أعظم من المعرفة يكفي لتفهّم مكانة الإنسان في هذا الكون من جهة، وإدراك العلاقات المشتبكة بين الإنسان وسائر البشر والموجودات في هذا العالم والكون بعامة بعيداً عن ثقل الحمولات الآيديولوجية المضلّلة - تلك الأعباء الثقيلة التي لم تعُد تصلح للتعامل مع معضلات عصرنا الحافل بمخاطر إشكالية لن تعمل الآيديولوجيا إلّا على إذكاء نارها المستعرة .
فَرَضَ العلم - والتقنية كذلك - واقع حال مستجدّاً صرنا معه مدفوعين دفعاً لإعادة كتابة تأريخنا الطبيعي والبشري بطريقة تستفيد من الرؤية العلمية التي تعتمد على منظور الأنساق المعقدة المتفاعلة مع بعضها في إطار كلٍّ حيوي واحد ، وهذا هو عين مايفعله التأريخ الكبير دون سواه من التواريخ .
ليت - العراقيين - يحبون التأريخ الكبير ويجعلونه عنصراً حيوياً في إعادة تشكيل ثقافتهم التي نخرها تأريخ المرويات الزائفة وأثقلتها حمولات الآيديولوجيا العقيم .