TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: كم أوْهَمَنا سَدَنَةُ الأدب !!

قناديل: كم أوْهَمَنا سَدَنَةُ الأدب !!

نشر في: 15 فبراير, 2020: 06:52 م

 لطفية الدليمي

لم أزل حتى يومنا هذا أذكر لحظة الرعب المريعة التي أعقبت نشرَ أول كتابٍ لي ( ممرٌّ إلى أحزان الرجال ) عام 1970 .

قضيتُ أياماً صعبة - الأصحُّ أنها كانت مرعبة - أترقّبُ ردّة الفعل تجاه عملي ، وكنتُ أتطلّعُ لحيازة مباركة كاهنٍ أكبر ، ومن يكون سوى بعض الأسماء المكرّسة التي عُدّت وقتها مانحة صك الدخول إلى جنّة السرد الموعودة بعد تعميد الداخلين بماء الولادة الأدبية .

أترانا كنّا سُذّجاً حينذاك ؟ . لا بالتأكيد ، فنحن في نهاية المطاف جزءٌ من حراك عالمي كان لايزال يعتمد المرجعيات المكرّسة لبعض سَدَنَة النقد الأدبي وإن كانت حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين قد شهدت ولادة إنعطافاتٍ ثورية تطلّعت لكسر المرجعيات الثقافية التي يمكن أن تجعل فلاناً من النقّاد قطباً مرجعياً تُخشى سطوته ، ثمّ أن العالم ماكان يموج بهذه الحركة التفاعلية عبر الشبكة التواصلية التي تتيحُ نشر الحس الثقافي الثوري على مستوى العالم ، وماكنّا حينذاك نمتلك الرغبة السايكولوجية - ولا التصوّر الفكري كذلك - وبما يمكّنُنا من إشعال معارك أدبية تطيحُ بالمرجعيات المهيمنة . كنّا نسعى لنشر أعمالنا والحصول على قدر مقبول من المباركة النقدية فحسب . 

عندما يمتدّ بي خيالي إلى تلك الأيام الخوالي أكادُ أغصّ لفرط سرعة التغيير الذي إجتاح عالمنا في بضعة عقود ، وأتفكّر بخاصة في الجوانب الأدبية من هذا التغيير ( لندع العلم والتقنية جانباً ) . لم يعُد النقد الأدبي إشتغالاً مكتفياً بنطاقه الكلاسيكي المعهود ؛ بل صار عنصراً في نسق مركّب ثقافي شامل عنوانه «الدراسات الثقافية» بعد أن غادر الأدب ذاته مواقعه الحصينة في قارة الأدب التي قرأنا عنها واستطبناها من قبلُ ؛ لكنّ تغييراً عاصفاً وشاملاً سينالُ الأدب - فضلاً عن الثقافة ذاتها - في السنوات القليلة المقبلة نحو ثقافة جديدة عنوانها «الثقافة الثالثة» - هذه الثقافة التي ستعيد تشكيل الوجود البشري على كلّ الأصعدة وبخاصة في نطاقين حيويين : التعليم والسياسات الثقافية .

إنقضت إلى غير رجعة تلك الأزمان التي كان فيها الناقد الأدبي هو مَن يُحيي ويميتُ أدبياً ، و قد تبدو هذه الأطروحة منطوية على شيء من القسوة المفرطة؛ لكنها حقيقية وملموسة ويمكننا تلمّس حيثياتها على المستوى العالمي وبخاصة في بيئتنا العربية . ظلّ الناقد الأدبي الكلاسيكي موهوماً بمُساكنة الأعالي الثقافية المهيمنة على المشهد الثقافي بكامله ، وظلّ مُعتكفاً في صومعته الأكاديمية التي وفّرت له نوعاً من مظلّة حمائية لوقتٍ ما ؛ لكنّ الإنعطافات الثقافية الثورية التي جاءت في أعقاب مواريث ما بعد الحداثة كانت أقوى من متاريس «كامبردج» أو «أكسفورد» أو سائر المعاقل الأدبية الكلاسيكية الموهومة بالحصانة المنيعة إزاء المتغيرات العاصفة وبخاصة تأثيرات الثورة الرقمية وهي تعيد تشكيل أنساق الخطاب الذي يتوجّه به الناقد إلى عموم القرّاء .

يمكن للمدقّق المتفحّص في ثقافة القرن الحادي والعشرين أن يرى نزوعاً لا يفتأ يتعاظم نحو توظيف نظرية الأنساق الشاملة على نحوٍ مماثلٍ لما يحصل في كلّ المباحث المعرفية الأخرى (العلمية والإنسانية) وبطريقة ماعاد معها أيُّ مبحث معرفي تقليدي جزيرة قائمة بذاتها بل هو جزء في منظومة دينامية معقدة ؛ وعلى أساس هذه الفكرة صار النقد الأدبي مبحثاً فرعياً في نطاق الدراسات الثقافية التي ترى الأدب تياراً من تيارات الثقافة وليس كينونة قائمة بذاتها .

كم كان النقّادُ موهومين بمعارفهم في تلك الأيام ، وكم أوهمونا معهم بأوهامهم !!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram